فالتوكل فيها بالحال والعلم والعمل جميعاً والمتوكلون في ملابسة هذه الأسباب على ثلاثة مقامات الأول مقام الخواص ونظرائه وهو الذي يدور في البوادي بغير زاد ثقة بفضل الله تعالى عليه في تقويته على الصبر أسبوعاً وما فرقه أو تيسير حشيش له أو قوت أو تثبيته على الرضا بالموت إن لم يتيسر شيء من ذلك فإن الذي يحمل الزاد قد يفقد الزاد أو يضل بعيره ويموت جوعاً فذلك ممكن مع الزاد كما أنه يمكن مع فقده المقام الثاني أن يقعد في بيته أو في مسجد ولكنه في القرى والأمصار وهذا أضعف من الأول لكنه أيضاً متوكل لأنه تارك للكسب والأسباب الظاهرة معول على فضل الله تعالى في تدبير أمره من جهة الأسباب الخفية ولكنه بالقعود في الأمصار متعرض لأسباب الرزق فإن ذلك من الأسباب الجاية إلا أن ذلك لا يبطل توكله إذا كان نظره إلى الذي يسخر له سكان البلد لإيصال رزقه إليه لا إلى سكان البلد إذ يتصور أن يغفل جميعهم عنه ويضيعوه لولا فضل الله تعالى بتعريفهم وتحريك دواعيهم المقام الثالث أن يخرج ويكتسب اكتساباً على الوجه الذي ذكرناه في الباب الثالث والرابع من كتاب آداب الكسب وهذا السعي لا يخرجه أيضاً عن مقامات التوكل إذا لم يكن طمأنينة نفسه إلى كفايته وقوته وجاهه وبضاعته فإن ذلك ربما يهلكه الله تعالى جميعه في لحظة بل يكون نظره إلى الكفيل الحق بحفظ جميع ذلك وتيسير أسبابه له بل يرى كسبه وبضاعته وكفايته بالإضافة إلى قدرة الله تعالى كما يرى القلم في يد الملك الموقع فلا يكون نظره إلى القلم بل إلى قلب الملك أنه بماذا يتحرك وإلى ماذا يميل وبم يحكم ثم إن كان هذا المكتسب مكتسباً لعياله أو ليفرق على المساكين فهو ببدنه مكتسب وبقلبه عنه منقطع فحال هذا أشرف من حال القاعد في بيته والدليل على أن الكسب لا ينافي حال التوكل إذا روعيت فيه الشروط وانضاف إليه الحال والمعرفة كما سبق أن الصديق رضي الله عنه لما بويع بالخلافة أصبح آخذاً الأثواب تحت حضنه والذراع بيده ودخل السوق ينادي حتى كرهه المسلمون وقالوا كيف تفعل ذلك وقد أقمت لخلافة النبوة فقال لا تشغلوني عن عيالي فإني إن أضعتهم كنت لما سواهم أضيع حتى فرضوا له قوت أهلبيت من المسلمين فلما رضوا بذلك رأى مساعدتهم وتطييب قلوبهم واستغراق الوقت بمصالح المسلمين أولى ويستحيل أن يقال لم يكن الصديق في مقام التوكل فمن أولى بهذا المقام منه فدل على أنه كان متوكلاً لا باعتبار ترك الكسب والسعي بل باعتبار قطع الالتفات إلى قوته وكفايته والعلم بأن الله هو ميسر الاكتساب ومدبر الأسباب وبشروط كان يراعيها في طريق الكسب من الاكتفاء بقدر الحاجة من غير استكثار وتفاخر وادخار ومن غير أن يكون درهمه أحب إليه من درهم غيره فمن دخل السوق ودرهمه أحب إليه من درهم غيره فهو حريص على الدنيا ومحب لها ولا يصح التوكل إلا مع الزهد في الدنيا نعم يصح الزهد دون التوكل فإن التوكل مقام وراء الزهد وقال أبو جعفر الحداد وهو شيخ الجنيد رحمة الله عليها وكان من المتوكلين أخفيت التوكل عشرين سنة وما فارقت السوق كنت أكتسب في كل يوم ديناراً ولا أبيت منه دانقاً ولا أستريح منه إلى قيراط أدخل به الحمام بل أخرجه كله قبل الليل وكان الجنيد لا يتكلم في التوكل بحضرته وكان يقول أستحي أن أتكلم في مقامه وهو حاضر عندي واعلم أن الجلوس في رباطات الصوفية مع معلوم بعيد من التوكل فإن لم يكن معلوم ووقف وأمروا الخادم بالخروج للطلب لم يصح معه التوكل إلا على ضعف ولكن يقوى بالحال والعلم كتوكل المكتسب وإن لم يسألوا بل قنعوا بما يحمل