وإني لأعلم أنه خير منها فكان قوله ذلك أشد عليهم من فعله فقالوا وكيف وهي أختك وهو مولاك فقال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول من أراد أن ينظر إلى رجل يحب الله بكل قلبه فلينظر إلى سالم (١) فهذا يدل على أن من الناس من لا يحب الله بكل قلبه فيحبه ويحب أيضاً غيره فلا جرم يكون نعيمه بلقاء الله عند القدوم عليه على قدر حبه وعذابه بفراق الدنيا عند الموت على قدر حبه لها
وأما السبب الثاني للكراهة فهو أن يكون العبد في ابتداء مقام المحبة وليس يكره الموت وإنما يكره عجلته قبل أن يستعد للقاء الله فذلك لا يدل على ضعف الحب وهو كالمحب الذي وصله الخبر بقدوم حبيبه عليه فأحب أن يتأخر قدومه ساعة ليهيء له داره ويعد له أسبابه فيلقاه كما يهواه فارغ القلب عن الشواغل خفيف الظهر عن العوائق فالكراهة بهذا السبب لا تنافي كمال الحب أصلاً وعلامته لدءوب في العمل واستغراق الهم في الاستعداد
ومنها أن يكون مؤثراً ما أحبه الله تعالى على ما يحبه في ظاهره وباطنه فيلزم مشاق العمل ويجتنب اتباع الهوى ويعرض عن دعة الكسل ولا يزال مواظباً على طاعة الله ومتقرباً إليه بالنوافل وطالباً عنده مزايا الدرجات كما يطلب المحب مزيد القرب في قلب محبوبه وقد وصف الله تعالى المحبين بالإيثار فقال يحبون من هاجر إليهم وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ومن بقي مستقراً على متابعة الهوى فمحبوبه ما يهواه بل يترك المحب هوى نفسه كما قيل:
أريد وصاله ويريد هجري ... فأترك ما أريد لما يريد
بل الحب إذا غلب قمع الهوى فلم يبق له تنعم بغير المحبوب كما روي أن زليخا لما آمنت وتزوج بها يوسف عليه السلام انفردت عنه وتخلت للعبادة وانقطعت إلى الله تعالى فكان يدعوها إلى فراشه نهارا فتدافعه إلى الليل فإذا دعاها ليلاً سوفت به إلى النهار وقالت: يا يوسف إنما كنت أحبك قبل أن أعرفه فأما إذ عرفته فما أبقت محبته محبة لسواه وما أريد به بدلا حتى قال لها إن الله جل ذكره أمرني بذلك وأخبرني أنه مخرج منك ولدين وجاعلهما نبيين فقالت: أما إذا كان الله تعالى أمرك بذلك وجعلني طريقاً إليه فطاعة لأمر الله تعالى فعندها سكنت إليه فإذن من أحب الله لا يعصيه ولذلك قال ابن المبارك فيه:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
وفي هذا المعنى قيل أيضا:
وأترك ما أهوى ... لما قد هويته ... فأرضى بما ترضى وإن سخطت نفسي
وقال سهل رحمه الله تعالى: علامة الحب إيثاره على نفسك وليس كل من عمل بطاعة الله عز وجل صار حبيباً وإنما الحبيب من اجتنب المناهي: وهو كما قال لأن محبته لله تعالى سبب محبة الله له كما قال تعالى يحبهم ويحبونه وإذا أحبه الله تولاه ونصره على أعدائه وإنما عدوه نفسه وشهواته فلا يخذله الله ولا يكله إلى هواه وشهواته
(١) حديث أبى حذيفة بن عتبة أنه لما زوج أخته فاطمة من سالم مولاه عاتبته قريش في ذلك وفيه فقال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول من أراد أن ينظر إلى رجل يحب الله بكل قلبه فلينظر إلى سالم لم أره من حديث حذيفة وروى أبو نعيم في الحلية المرفوع منه من حديث عمر أن سالما يحب الله حقا من قلبه وفي رواية له أن سالما شديد الحب لله عز وجل لو لم يخف الله عز وجل ما عصاه وفيه عبد الله بن لهيعة