وقد عاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم في الإعراض عن عبد والإقبال على عبد وهما في العبودية سيان ولكن في الحال مختلفان فقال وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى وقال فى الآخرة أما من استغنى فأنت له تصدى وكذلك أمره بالقعود مع طائفة فقال عز وجل وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم وأمره بالإعراض عن غيرهم فقال وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى قال فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمبن وقال تَعَالَى وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي
فكذلك الانبساط والإدلال يحتمل من بعض العباد دون بعض فمن انبساط الأنس قول موسى عليه السلام إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء وقوله في التعليل والاعتذار لما قيل له اذهب إلى فرعون {فقال} ولهم على ذنب وقوله إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني وقوله إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى وهذا من غير موسى عليه السلام من سوء الأدب لأن الذي أقيم مقام الأنس يلاطف ويحتمل ولم يحتمل ليونس عليه السلام ما دون هذا لما أقيم مقام القبض والهيبة فعوقب بالسجن في بطن الحوت في ظلمات ثلاث ونودي عليه إلى يوم القيامة لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم قال الحسن العراء هو القيامة ونهى نبينا صلى الله عليه وسلم أن يقتدى به
وقيل له فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم
وهذه الاختلافات بعضها لاختلاف الأحوال والمقامات وبعضها لما سبق في الأزل من التفاضل والتفاوت في القسمة بين العباد وقد قال تعالى ولقد فضلنا بعض النبين على بعض وقد قال منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات فكان عيسى عليه السلام من المفضلين ولإدلاله سلم على نفسه فقال والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً وهذا انبساط منه لما شاهد من اللطف في مقام الأنس
وأما يحيى بن زكريا عليه السلام فإنه أقيم مقام الهيبة والحياء فلم ينطق حتى أثنى عليه خالقه فقال وسلام عليه
وانظر كيف احتمل لأخوة يوسف ما فعلوه بيوسف وقد قال بعض العلماء قد عددت من أول قوله تعالى إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا إلى رأس العشرين من إخباره تعالى عن زهدهم فيه نيفاً وأربعين خطيئة بعضها أكبر من بعض وقد يجتمع في الكلمة الواحدة الثلاث والأربع فغفر لهم وعفا عنهم ولم يحتمل العزير في مسألة واحدة سأل عنها في القدر حتى قيل مُحِيَ من ديوان النبوة وكذلك كان بلعام بن باعوراء من أكابر العلماء فأكل الدنيا بالدين فلم يحتمل له ذلك
وكان آصف من المسرفين وكانت معصيته في الجوارح فعفا عنه
فقد روي أن الله تعالى أوحى إلى سليمان عليه السلام يا رأس العابدين ويا ابن محجة الزاهدين إلى كم يعصيني ابن خالتك آصف وأنا أحلم عليه مرة بعد مرة فوعزتى وجلالي لئن أخذته عصفة من عصفاتي عليه لأتركنه مثلة لمن معه ونكالاً لمن بعده فلما دخل آصف على سليمان عليه السلام أخبره بما أوحى الله تعالى إليه فخرج حتى علا كثيباً من رمل ثم رفع رأسه ويديه نحو السماء وقال إلهي وسيدي أنت أنت وأنا وأنا فكيف أتوب إن لم تتب علي وكيف أستعصم إن لم تعصمني لأعودن فأوحى الله تعالى إليه صدقت يا آصف أنت أنت وأنا وأنا أستقبل التوبة وقد تبت عليك وأنا التواب الرحيم وهذا كلام مدل به عليه وهارب منه إليه وناظر به إليه