فلنفرض محبوباً من الخلق قال بين يدي محبيه
إني أريد أن أميز بين من يحبني ويبغضني وأنصب فيه معيارا صادقا وميزانا ناطقاً وهو أني أقصد إلى فلان فأوذيه وأضربه ضرباً يضطره ذلك إلى الشتم لي
حتى إذا شتمني أبغضته واتخذته عدواً لي فكل من أحبه أعلم أيضاً أنه عدوي وكل من أبغضه أعلم أنه صديقي ومحبي
ثم فعل ذلك وحصل مراده من الشتم الذي هو سبب البغض وحصل البغض الذي هو سبب العداوة
فحق على كل من هو صادق في محبته وعالم بشروط المحبة أن يقول أما تدبيرك في إيذاء هذا الشخص وضربه وإبعاده وتعريضك إياه للبغض والعداوة فأنا محب له وراض به فإنه رأيك وتدبيرك وفعلك وإرادتك وأما شتمه إياك فإنه عدوان من جهته إذ كان حقه أن يصبر ولا يشتم ولكنه كان مرادك منه فإنك قصدت بضربه استنطاقه بالشتم الموجب للمقت فهو من حيث إنه حصل على وفق مرادك وتدبيرك الذي دبرته فأنا راض به ولو لم يحصل لكان ذلك نقصاناً في تدبيرك وتعويقاً في مرادك وأنا كاره لفوات مرادك ولكنه من حيث إنه وصف لهذا الشخص وكسب له وعدوان وتهجم منه عليك على خلاف ما يقتضيه جمالك إذ كان ذلك يقتضي أن يحتمل منك الضرب ولا يقابل بالشتم فأنا كاره له من حيث نسبته إليه ومن حيث هو وصف له لا من حيث هو مرادك ومقتضى تدبيرك وأما بغضك له بسبب شتمك فأنا راض به ومحب له لأنه مرادك وأنا على موافقتك أيضاً مبغض له لأن شرط المحب أن يكون لحبيب المحبوب حبيباً ولعدوه عدواً
وأما بغضه لك فإني أرضاه من حيث إنك أردت أن يبغضك إذ أبعدته عن نفسك وسلطت عليه دواعي البغض ولكني أبغضه من حيث إنه وصف ذلك المبغض وكسبه وفعله وأمقته لذلك فهو ممقوت عندي لمقته إياك وبغضه ومقته لك أيضاً عندي مكروه من حيث أنه وصفه وكل ذلك من حيث إنه مرادك فهو مرضي
وإنما التناقض أن يقول هو من حيث إنه مرادك مرضي ومن حيث إنه مرادك مكروه وأما إذا كان مكروهاً لا من حيث إنه فعله ومراده بل من حيث إنه وصف غيره وكسبه فهذا لا تناقض فيه ويشهد لذلك كل ما يكره من وجه ويرضى به من وجه ونظائر ذلك لا تحصى
فإذن تسليط الله دواعي الشهوة والمعصية عليه حتى يجره ذلك إلى حب المعصية ويجره الحب إلى فعل المعصية يضاهي ضرب المحبوب للشخص الذي ضربناه مثلاً ليجره الضرب إلى الغضب والغضب إلى الشتم
ومقت الله تعالى لمن عصاه وإن كانت معصيته بتدبيره يشبه بغض المشتوم لمن شتمه وإن كان شتمه إنما يحصل بتدبيره واختياره لأسبابه وفعل الله تعالى ذلك بكل عبد من عبيده أعني تسليط دواعي المعصية عليه يدل على أنه سبقت مشيئته بإبعاده ومقته
فواجب على كل عبد محب لله أن يبغض من أبغضه الله ويمقت من مقته الله ويعادي من أبعده الله عن حضرته وإن اضطره بقهره وقدرته إلى معاداته ومخالفته فإنه بعيد مطرود ملعون عن الحضرة وإن كان بعيداً بإبعاده قهراً ومطروداً بطرده واضطراره
والمبعد عن درجات القرب ينبغي أن يكون مقيتاً بغيضاً إلى جميع المحبين موافقة للمحبوب بإظهار الغضب على من أظهر المحبوب الغضب عليه بإبعاده
بهذا يتقرر جميع ما وردت به الأخبار من البغض في الله والحب في الله والتشديد على الكفار والتغليظ عليهم والمبالغة في مقتهم مع الرضا بقضاء الله تعالى من حيث إنه قضاء الله عز وجل
وهذا كله يستمد من سر القدر الذي لا رخصه فى إفشائه وهو أن الشر والخير كلاهما داخلان في المشيئة والإرادة ولكن الشر مراد مكروه والخير مراد مرضي به
قمن قال ليس الشر من الله فهو جاهل وكذا من قال إنهما جميعاً منه من غير افتراق في الرضا والكراهة فهو أيضاً مقصر
وكشف الغطاء عنه غير مأذون فيه فالأولى السكوت والتأدب بأدب