للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَهَكَذَا طَرِيقُ الْفِكْرِ الَّذِي يُطْلَبُ بِهِ الْعُلُومُ الَّتِي تُثْمِرُ اجْتِلَابَ أَحْوَالِ مَحْبُوبَةٍ أَوِ التَّنَزُّهِ عن صفات مذمومة

وقد ذكرنا في كل واحد من هذه الأحوال كتابا مفردا يستعان به على تفصيل الفكر أما بذكر مجامعه فَلَا يُوجَدُ فِيهِ أَنْفَعُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بالتفكر فإنه جَامِعٌ لِجَمِيعِ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ وَفِيهِ شِفَاءٌ لِلْعَالَمِينَ وفيه مَا يُورِثُ الْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ وَالصَّبْرَ وَالشُّكْرَ وَالْمَحَبَّةَ وَالشَّوْقَ وَسَائِرَ الْأَحْوَالِ وَفِيهِ مَا يَزْجُرُ عَنْ سَائِرِ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَهُ الْعَبْدُ وَيُرَدِّدَ الْآيَةَ الَّتِي هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّفَكُّرِ فِيهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَلَوْ مِائَةَ مَرَّةٍ فَقِرَاءَةُ آيَةٍ بِتَفَكُّرٍ وَفَهْمٍ خَيْرٌ مِنْ خَتْمَةٍ بِغَيْرِ تَدَبُّرٍ وَفَهْمٍ فَلْيَتَوَقَّفْ فِي التَّأَمُّلِ فِيهَا وَلَوْ لَيْلَةً وَاحِدَةً فَإِنَّ تَحْتَ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْهَا أَسْرَارًا لَا تَنْحَصِرُ وَلَا يُوقَفُ عَلَيْهَا إِلَّا بِدَقِيقِ الْفِكْرِ عَنْ صَفَاءِ الْقَلْبِ بَعْدَ صِدْقِ الْمُعَامَلَةِ

وَكَذَلِكَ مُطَالَعَةُ أَخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ (١) وَكُلُّ كَلِمَةٍ مِنْ كَلِمَاتِهِ بَحْرٌ مِنْ بُحُورِ الْحِكْمَةِ وَلَوْ تَأَمَّلَهَا الْعَالِمُ حَقَّ التَّأَمُّلِ لَمْ يَنْقَطِعْ فِيهَا نَظَرُهُ طُولَ عُمُرِهِ

وشرح آحاد الآيات والأخبار يطول فانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم إن روح القدس نفث في روعي أحبب من أحببت فإنك مفارقه وعش ما شئت فإنك ميت واعمل ما شئت فإنك مجزى به (٢) فإن هذه الكلمات جامعة حكم الأولين والآخرين وهي كافية للمتأملين فيها طول العمر إذ لو وقفوا على معانيها وغلبت على قلوبهم غلبة يقين لاستغرقتهم ولحال ذلك بينهم وبين التلفت إلى الدنيا بالكلية

فهذا هو طريق الفكر في علوم المعاملة وصفات العبد من حيث هي محبوبة عند الله تعالى أو مكروهة

والمبتدئ ينبغي أن يكون مستغرق الوقت في هذه الأفكار حتى يعمر قلبه بالأخلاق المحمودة والمقامات الشريفة وينزه باطنه وظاهره عن المكاره وليعلم أن هذا مع أنه أفضل من سائر العبادات فليس هو له غاية المطلب بل المشغول به محجوب عن مطلب الصديقين وهوالتنعم بالفكر في جلال الله تعالى وجماله واستغراق القلب بحيث يفنى عن نفسه أي ينسى نفسه وأحواله ومقاماته وصفاته فيكون مستغرق الهم بالمحبوب كالعاشق المستهتر عند لقاء الحبيب فإنه لا يتفرغ للنظر في أحوال نفسه وأوصافها بل كالمبهوت الغافل عن نفسه وهو منتهى لذة العشاق

فأما ما ذكرناه فهو تفكر في عمارة الباطن ليصلح للقرب والوصال فإذا ضيع جميع عمره في إصلاح نفسه فمتى يتنعم بالقرب ولذلك كان الخواص يدور في البوادي فلقيه الحسين بن منصور وقال فيم أنت قال أدور في البوادي أصلح حالي في التوكل فقال الحسين أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين الفناء في التوحيد فالفناء في الواحد الحق هو غاية مقصد الطالبين ومنتهى نعيم الصديقين

وأما التنزه عن الصفات المهلكات فيجري مجرى الخروج عن العدة في النكاح

وأما الاتصاف بالصفات المنجيات وسائر الطاعات فيجري مجرى تهيئة المرأة وجهازها وتنظيفها ووجهها ومشطها شعرها لتصلح بذلك للقاء زوجها فإن استغرقت جميع عمرها في تبرئة الرحم وتزيين الوجه كان ذلك حجابا لها عن لقاء المحبوب

فهكذا ينبغي أن تفهم طريق الدين إن كنت من أهل المجالسة وإن كنت كالعبد السوء لا يتحرك إلا خوفا من الضرب وطمعا في الأجرة فدونك وإلعاب البدن بالأعمال الظاهرة فإن بينك وبين القلب حجابا كثيفا فإذا قضيت حق الأعمال كنت من أهل الجنة ولكن للمجالسة أقوم آخرون

وإذا عرفت مجال الفكر في علوم المعاملة التى بين العبد وبين ربه فينبغي أن تتخذ ذلك عادتك وديدنك صباحا ومساء فلا تغفل عن نفسك وعن صفاتك المبعدة من الله تعالى وأحوالك المقربة إليه سبحانه وتعالى

بل كل مريد فينبغي أن يكون له جريدة يثبت فيها


(١) حديث أنه صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم تقدم
(٢) حديث إن روح القدس نفث في روعي أحبب من أحببت فإنك مفارقه الحديث تقدم غير مرة

<<  <  ج: ص:  >  >>