للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكيف هدى الله الناس إلى استخراجها وتنقيتها واتخاذ الأوانى والآلات والنقود والحلى منها ثم انظر إلى معادن الأرض من النفط والكبريت والقار وغيرها وأقلها الملح ولا يحتاج إليه إلا لتطييب الطعام ولو خلت عنه بلدة لتسارع الهلاك إليها فانظر إلى رحمة الله تعالى كيف خلق بعض الأراضى سبخة بجوهرها بحيث يجتمع فيها الماء الصافى من المطر فيستحيل ملحا مالحا محرقا لا يمكن تناول مثقال منه ليكون ذلك تطييبا لطعامك إذا أكلته فيتهنأ عيشك وما من جماد ولا حيوان ولا نبات إلا وفيه حكمة وحكم من هذا الجنس ما خلق شىء منها عبثا ولا لعبا ولا هزلا بل خلق الكل بالحق كما ينبغى وعلى الوجه الذى ينبغى وكما يليق بجلاله وكرمه ولطفه ولذلك قال تعالى وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقنهما إلا بالحق

ومن آياته أصناف الحيوانات وانقسمها إِلَى مَا يَطِيرُ وَإِلَى مَا يَمْشِي وَانْقِسَامَ مَا يَمْشِي إِلَى مَا يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وإلى ما يمشى على أَرْبَعٍ وَعَلَى عَشْرٍ وَعَلَى مِائَةٍ كَمَا يُشَاهَدُ فِي بَعْضِ الْحَشَرَاتِ ثُمَّ انْقِسَامَهَا فِي الْمَنَافِعِ وَالصُّوَرِ وَالْأَشْكَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالطِّبَاعِ فَانْظُرْ إِلَى طُيُورِ الجو وإلى وحوش البر والبهائم الأهلية ترى فيها من العجائب ولا تَشُكُّ مَعَهُ فِي عَظَمَةِ خَالِقِهَا وَقُدْرَةِ مُقَدِّرِهَا وَحِكْمَةِ مُصَوِّرِهَا وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَقْصَى ذَلِكَ بَلْ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَذْكُرَ عَجَائِبَ الْبَقَّةِ أو النملة أو النخلة أو العنكبوت وهى من صغار الحيوانات بِنَائِهَا بَيْتَهَا وَفِي جَمْعِهَا غِذَاءَهَا وَفِي إِلْفِهَا لزوجها وفى ادخارها لنفسا وَفِي حِذْقِهَا فِي هَنْدَسَةِ بَيْتِهَا وَفِي هِدَايَتِهَا إلى حاجاتها لم نقدر على ذلك فترى العنكبوت يبنى بيته على طرف نهر فيطلب أولا موضعين متقاربين بينهما فرجة بمقدار ذراع فما دونه حتى يمكنه أن يصل بالخيط بين طرفيه ثم يبتدىء ويلقى اللعاب الذى هو خيطه على جانب ليلتصق به ثم يغدو إلى الجانب الآخر فيحكم الطرف الآخر من الخيط ثم كذلك يتردد ثانيا وثالثا ويجعل بعد ما بينهما متناسبا تناسبا هندسيا حتى إذا أحكم معاقد القمط ورتب الخيوط كالسدى اشتغل باللحمة فيضع اللحمة على السدى ويضيف بعضه إلى بعض ويحكم العقد على موضع التقاء اللحمة بالسدى ويراعى فى جميع ذلك تناسب الهندسة ويجعل ذلك شبكة يقع فيها البق والذباب ويقعد فى زاوية مترصدا لوقوع الصيد فى الشبكة فإذا وقع الصيد بادر إلى أخذه وأكله فإن عجز عن الصيد كذلك طلب لنفسه زاوية من حائط ووصل بين طرفى الزاوية بخيط ثم علق نفسه فيها بخيط آخر وبقى منكسا فى الهواء ينتظر ذبابة تطير فإذا طارت رمى بنفسه إليه فإخذه ولف خيطه على رجليه وأحكمه ثم أكله وما من حيوان صغير ولا كبير إلا وفيه من العجائب ما لا يحصى أفترى أنه تعلم هذه الصنعة من نفسه أو تكون بنفسه أو كونه آدمى أو علمه أو لا هادى له ولا معلم أفيشك ذو بصيرة فى أنه مسكين ضعيف عاجز بل الفيل العظيم شخصه الظاهرة قوته عاجز عن أمر نفسه فكيف هذا الحيوان الضعيف أفلا يشهد هو بِشَكْلِهِ وَصُورَتِهِ وَحَرَكَتِهِ وَهِدَايَتِهِ وَعَجَائِبِ صَنْعَتِهِ لِفَاطِرِهِ الْحَكِيمِ وَخَالِقِهِ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ فَالْبَصِيرُ يَرَى فِي هَذَا الْحَيَوَانِ الصَّغِيرِ مِنْ عَظَمَةِ الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ وَجَلَالِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ مَا تَتَحَيَّرُ فِيهِ الْأَلْبَابُ وَالْعُقُولُ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَهَذَا الْبَابُ أَيْضًا لَا حَصْرَ لَهُ فَإِنَّ الْحَيَوَانَاتِ وأشكالها وأخلاقها وَطِبَاعَهَا غَيْرُ مَحْصُورَةٍ وَإِنَّمَا سَقَطَ تَعَجُّبُ الْقُلُوبِ مِنْهَا لِأُنْسِهَا بِكَثْرَةِ الْمُشَاهَدَةِ نَعَمْ إِذَا رَأَى حيوانا غريبا وَلَوْ دُودًا تَجَدَّدَ تَعَجُّبُهُ وَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَعْجَبَهُ وَالْإِنْسَانُ أَعْجَبُ الْحَيَوَانَاتِ وَلَيْسَ يَتَعَجَّبُ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ لَوْ نَظَرَ إِلَى الْأَنْعَامِ التى ألفها تَعَجُّبُهُ وَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَعْجَبَهُ وَالْإِنْسَانُ أَعْجَبُ الْحَيَوَانَاتِ وَلَيْسَ يَتَعَجَّبُ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ لَوْ نَظَرَ إِلَى الْأَنْعَامِ الَّتِي أَلِفَهَا وَنَظَرَ إِلَى أَشْكَالِهَا وَصُوَرِهَا ثُمَّ إِلَى مَنَافِعِهَا وَفَوَائِدِهَا مِنْ جُلُودِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا الَّتِي جَعَلَهَا الله لباسا لخلقه وأكانا لَهُمْ فِي ظَعْنِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ وَآنِيَةً لَأَشْرِبَتِهِمْ وَأَوْعِيَةً لأغذيتهم وَصِوَانًا لِأَقْدَامِهِمْ وَجَعَلَ

<<  <  ج: ص:  >  >>