أَلْبَانَهَا وَلُحُومَهَا أَغْذِيَةً لَهُمْ ثُمَّ جَعَلَ بَعْضَهَا زِينَةً لِلرَّكُوبِ وَبَعْضَهَا حَامِلَةً لِلْأَثْقَالِ قَاطِعَةً لِلْبَوَادِي وَالْمُفَازَاتِ الْبَعِيدَةِ لَأَكْثَرَ النَّاظِرُ التَّعَجُّبَ مِنْ حِكْمَةِ خَالِقِهَا وَمُصَوِّرِهَا فَإِنَّهُ مَا خَلَقَهَا إِلَّا بِعِلْمٍ مُحِيطٍ بِجَمِيعِ مَنَافِعِهَا سَابِقٍ عَلَى خَلْقِهِ إِيَّاهَا فَسُبْحَانَ مَنِ الْأُمُورُ مَكْشُوفَةٌ فِي عِلْمِهِ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ وَمِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ وَتَدَبُّرٍ وَمِنْ غَيْرِ اسْتِعَانَةٍ بِوَزِيرٍ أَوْ مُشِيرٍ فَهُوَ الْعَلِيمُ الخبير الْقَدِيرُ فَلَقَدِ اسْتَخْرَجَ بِأَقَلِّ الْقَلِيلِ مِمَّا خَلَقَهُ صِدْقَ الشَّهَادَةِ مِنْ قُلُوبِ الْعَارِفِينَ بِتَوْحِيدِهِ فَمَا لِلْخَلْقِ إِلَّا الْإِذْعَانُ لِقَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ وَالِاعْتِرَافُ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَالْإِقْرَارُ بِالْعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَةِ جَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ فَمَنْ ذَا الَّذِي يُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ بَلْ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا غَايَةُ مَعْرِفَتِنَا الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أن يكرمنا بهدايته بمنه ورأفته ومن آياته البحار العميقة المكتنفة لأقطار الأرض التى هى قطع من البحر الأعظم المحيط بجميع الأرض حتى إن جميع المكشوف من البوادى والجبال والأرض بالإضافة إلى الماء كجزيرة صغيرة فى بحر عظيم وبقية الأرض مستورة بالماء قال النبي صلى الله عليه وسلم الأرض في البحر كالاصطبل في الأرض فانسب اصطبلا إلى جميع الأرض واعلم أن الأرض بالإضافة إلى البحر مثله
وقد شاهدت عجائب الأرض وما فيها فتأمل الآن عجائب البحر فإن عجائب ما فيه من الحيوان والجواهر أضعاف عجائب مَا تُشَاهِدُهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَمَا أَنَّ سعته أضعاف سعة الارض ولعظم البحر كان فيه من الحيوانات العظام ما ترى ظهورها فى البحر فتظن أنها جزيرة فينزل أنها جزيرة فينزل الركاب عليها فربما تحس بالنيران إذا اشتغلت فتتحرك ويعلم أنها حيوان وما من صنف من أصناف حيوان البر من فرس أو طير أو بقر أو إنسان إلا وفى البحر أمثاله وأضعافه وفيه أجناس لا يعهد لها نظير فى البر وقد ذكرت أوصافها فى مجلدات وجمعها أقوام عنوا بركوب البحر وجمع عجائبه
ثم انْظُرْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ اللُّؤْلُؤَ وَدَوَّرَهُ فِي صَدَفِهِ تَحْتَ الْمَاءِ وَانْظُرْ كَيْفَ أَنْبَتَ الْمَرْجَانَ من صم الصخور تحت الماء وإنما هو نبات على هيئة شجر ينبت من الحجر ثُمَّ تَأَمَّلْ مَا عَدَاهُ مِنَ الْعَنْبَرِ وَأَصْنَافِ النَّفَائِسِ الَّتِي يَقْذِفُهَا الْبَحْرُ وَتُسْتَخْرَجُ مِنْهُ ثُمَّ انْظُرْ إِلَى عَجَائِبِ السُّفُنِ كَيْفَ أَمْسَكَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ وَسَيَّرَ فِيهَا التُّجَّارَ وَطُلَّابَ الْأَمْوَالِ وَغَيْرَهُمْ وَسَخَّرَ لَهُمُ الْفُلْكَ لِتَحْمِلَ أثقالهم ثم أرسل الرياح لتسوق السفن ثم عرف الملاحين موارد الرياح ومهابها ومواقيتها ولا يستقصى على الجملة عجائب صنع الله فى البحر فى مجلدات وأعجب من ذلك كله مَا هُوَ أَظْهَرُ مِنْ كُلِّ ظَاهِرٍ وَهُوَ كَيْفِيَّةُ قَطْرَةِ الْمَاءِ وَهُوَ جِسْمٌ رَقِيقٌ لَطِيفٌ سَيَّالٌ مُشِفٌّ مُتَّصِلُ الْأَجْزَاءِ كَأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ لطيف التركيب سريع القبول للتقطيع كأنه منفصل مسخر للتصرف قابل للانفصال والاتصال بِهِ حَيَاةُ كُلِّ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ حَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ فَلَوِ احْتَاجَ الْعَبْدُ إِلَى شَرْبَةِ مَاءٍ وَمُنِعَ مِنْهَا لَبَذَلَ جَمِيعَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ وَمُلْكَ الدُّنْيَا فِي تَحْصِيلِهَا لَوْ مَلَكَ ذَلِكَ ثُمَّ لَوْ شَرِبَهَا وَمُنِعَ مِنْ إِخْرَاجِهَا لَبَذَلَ جَمِيعَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ وَمُلْكَ الدُّنْيَا فِي إِخْرَاجِهَا فَالْعَجَبُ مِنَ الْآدَمِيِّ كَيْفَ يَسْتَعْظِمُ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ وَنَفَائِسَ الْجَوَاهِرِ وَيَغْفُلُ عَنْ نِعْمَةِ اللَّهِ فِي شَرْبَةِ مَاءٍ إِذَا احْتَاجَ إِلَى شُرْبِهَا أَوِ الِاسْتِفْرَاغِ عَنْهَا بَذَلَ جَمِيعَ الدُّنْيَا فِيهَا فَتَأَمَّلْ فِي عَجَائِبِ الْمِيَاهِ وَالْأَنْهَارِ وَالْآبَارِ وَالْبِحَارِ فَفِيهَا مُتَّسَعٌ لِلْفِكْرِ وَمَجَالٌ