كَبَيْتٍ وَاحِدٍ وَالسَّمَاءُ سَقْفُهُ فَالْعَجَبُ مِنْكَ أَنَّكَ تَدْخُلُ بَيْتَ غَنِيٍّ فَتَرَاهُ مُزَوَّقًا بِالصَّبْغِ مُمَوَّهًا بِالذَّهَبِ فَلَا يَنْقَطِعُ تَعَجُّبُكَ مِنْهُ وَلَا تَزَالُ تَذْكُرُهُ وَتَصِفُ حُسْنَهُ طُولَ عُمُرِكَ وَأَنْتَ أَبَدًا تَنْظُرُ إِلَى هَذَا الْبَيْتِ الْعَظِيمِ وَإِلَى أَرْضِهِ وَإِلَى سَقْفِهِ وَإِلَى هَوَائِهِ وَإِلَى عَجَائِبِ أَمْتِعَتِهِ وغرائب حيواناته وبدائع نقوشه ثُمَّ لَا تَتَحَدَّثُ فِيهِ وَلَا تَلْتَفِتُ بِقَلْبِكَ إليه فما هذا البيت دون ذلك البيت الذى تصفه بل ذلك البيت هو ايضا جزء من الأرض التى هى أخس أجزاء هذا البيت ومع هذا فلا تنظر إليه ليس له سبب إلا أنه بيت ربك هو الذى انفرد ببنائه وترتيبه وأنت قد نسيت نفسك وربك وبيت ربك واشتغلت ببطنك وفرجك ليس لك هم إلا شهوتك أو حشمتك وغاية
شهوتك أن تملأ بطنك ولا تقدر على أن تأكل عشر ما تأكله بهيمة فتكون البهيمة فوقك بعشر درجات
وغاية حشمتك أن تقبل عليك عشرة أو مائة من معارفك فينافقون بألسنتهم بين يديك ويضمرون خبائث الاعتقادات عليك وإن صدقوك فى مودتهم إياك فلا يملكون لك ولا لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا وقد يكون فى بلدك من أغنياء اليهود والنصارى من يزيد جاهه على جاهك وقد اشتغلت بهذا الْغُرُورِ وَغَفَلْتَ عَنِ النَّظَرِ فِي جَمَالِ مَلَكُوتِ السموات والأرض ثم غفلت عن التنعم بالنظر إلى جلال مالك الملكوت والملك
وما مثلك ومثل عقلك إلا مثل النملة تخرج من جحرها الذى حفرته فى قصر مشيد من قصور الملك رفيع البنيان حصين الأركان مزين بالجوارى والغلمان وأنواع الذخائر والنفائس فإنها إذا خرجت من جحرها ولقيت صاحبتها لم تتحدث لو قدرت على النطق إلا عن بيتها وغذائها وكيفية ادخارها فأما حال القصر والملك الذى فى القصر فهى بمعزل عنه وعن التفكر فيه بل لا قدرة لها على المجاوزة بالنظر عن نفسها وغذائها وبيتها إلى غيره
وكما غفلت النملة عن القصر وعن أرضه وسقفه وحيطانه وسائر بنيانه وغفلت أيضا عن سكانه فأنت أيضا غافل عن بيت الله تعالى وعن ملائكته الذين هم سكان عوانه فلا تعرف من السماء إلا ما تعرفه النملة من سقف بيتك ولا تعرف من ملائكة السموات إلا ما تعرف النملة منك ومن سكان بيتك
نعم ليس للنملة طريق إلى أن تعرفك وتعرف عجائب قصرك وبدائع صنعة الصانع فيه وأما أنت فلك قدرة على أن تجول فى الملكوت وتعرف من عجائبه ما الخلق غافلون عنه
ولنقبض عنان الكلام عن هذا النمط فإنه مجال لا آخر له ولو استقصينا أعمارا طويلة لم نقدر على شرح ما تفضل الله تعالى علينا بمعرفته وكل ما عرفناه قليل نزر حقير بالإضافة إلى ما عرفه جملة العلماء والأولياء وما عرفوه قليل نزر حقير بالإضافة إلى ما عرفه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وجملة ما عرفوه قليل بالإضافة إلى ما عرفه محمد نبينا صلى الله عليه وسلم وما عرفه الأنبياء كلهم قليل بالإضافة إلى ما عرفته الملائكة المقربون كإسرافيل وجبريل وغيرهما ثم جميع علوم الملائكة والجن والإنس إذا أضيف إلى علم الله سبحانه وتعالى لم يستحق أن يسمى علماً بل هو إلى أن يسمى دهشا وحيرة وقصورا وعجزا أقرب
فسبحان من عرف عباده ما عرف ثم خاطب جميعهم فقال وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً
فهذا بيان معاقد الجمل التى تجول فيها فكر المتفكرين في خلق الله تعالى وليس فيها فكر في ذات الله تعالى ولكن يستفاد من الفكر فى الخلق لا محالة معرفة الخالق وعظمته وجلاله وقدرته وكلما استكثرت من معرفة عجيب صنع الله تعالى كانت معرفتك بجلاله وعظمته أتم
وهذا كما أنك تعظم عالما بسبب معرفتك بعلمه فلا تزال تطلع على غريبه من تصنيفه أو شعره فتزداد به معرفة وتزداد بحسنه له توقيرا وتعظيما واحتراما حتى إن كل كلمة من كلماته وكل بيت عجيب من أبيات شعره يزيده محلا من قلبك يستدعى التعظيم له فى نفسك
فهكذا تأمل في خلق الله تعالى وتصنيفه وتأليفه وكل ما في الوجود من خلق الله وتصنيفه والنظر والفكر فيه لا يتناهى أبدا وإنما لكل عبد