شيء إلا عن ذكر الموت الذي هو بين يديه كالذي يريد أن يسافر إلى مفازة مخطرة أو يركب البحر فإنه لا يتفكر إلا فيه فإذا باشر ذكر الموت قلبه فيوشك أن يؤثر فيه وعند ذلك يقل فرحه وسروره بالدنيا وينكسر قلبه
وأنجع طريق فيه أَنْ يُكْثِرَ ذِكْرَ أَشْكَالِهِ وَأَقْرَانِهِ الَّذِينَ مَضَوْا قَبْلَهُ فَيَتَذَكَّرَ مَوْتَهُمْ وَمَصَارِعَهُمْ تَحْتَ التُّرَابِ وَيَتَذَكَّرَ صُوَرَهُمْ فِي مَنَاصِبِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَيَتَأَمَّلَ كَيْفَ مَحَا التُّرَابُ الْآنَ حُسْنَ صُوَرِهِمْ
وَكَيْفَ تَبَدَّدَتْ أَجَزَاؤُهُمْ في قبورهم وكيف أرملوا نساءهم وأيتموا أولادهم وضيعوا أموالهم وخلت منهم مساجدهم ومجالسهم وانقطعت آثارهم فمهما تذكر رجل رجلا وفصل في قلبه حاله وكيفية موته وتوهم صورته وتذكر نشاطه وتردده وتأمله للعيش والبقاء ونسيانه للموت وانخداعه بمواتاة الأسباب وركونه إلى القوة والشباب وميله إلى الضحك واللهو وغفلته عما بين يديه من الموت الذريع والهلاك السريع
وأنه كيف كان يتردد والآن قد تهدمت رجلاه ومفاصله
وأنه كيف كان ينطق وقد أكل الدود لسانه
وكيف كان يضحك وقد أكل التراب أسنانه
وكيف كان يدبر لنفسه ما لا يحتاج إليه إلى عشر سنين في وقت لم يكن بينه وبين الموت إلا شهر وهو غافل عما يراد به حتى جاءه الموت في وقت لم يحتسبه فانكشف له صورة الملك وقرع سمعه النداء إما بالجنة أو بالنار فعند ذلك ينظر في نفسه أنه مثلهم وغفلته كغفلتهم وستكون عاقبته كعاقبتهم
قال أبو الدرداء رضي الله عنه إذا ذكرت الموتى فعد نفسك كأحدهم
وقال ابن مسعود رضي الله عنه السعيد من وعظ بغيره
وقال عمر بن عبد العزيز ألا ترون أنكم تجهزون كل يوم غاديا أو رائحا إلى الله عز وجل تضعونه في صدع من الأرض قد توسد التراب وخلف الأحباب وقطع الأسباب
فملازمة هذه الأفكار وأمثالها مَعَ دُخُولِ الْمَقَابِرِ وَمُشَاهَدَةِ الْمَرْضَى هُوَ الَّذِي يجدد ذكر الموت في القلب حتى يغلب عليه بحيث يصير نصب عينيه فعند ذلك يوشك أن يسند له ويتجافى عن دار الغرور وإلا فالذكر بظاهر القلب وعذبة اللسان قليل الجدوى في التحذير والتنبيه وَمَهْمَا طَابَ قَلْبُهُ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَذَكَّرَ فِي الْحَالِ أَنَّهُ لَا بُدَّ له مِنْ مُفَارَقَتِهِ نَظَرَ ابن مطيع ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى دَارِهِ فَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا ثُمَّ بَكَى فَقَالَ وَاللَّهِ لَوْلَا الْمَوْتُ لَكُنْتُ بِكِ مَسْرُورًا وَلَوْلَا مَا نَصِيرُ إِلَيْهِ مِنْ ضِيقِ الْقُبُورِ لَقَرَّتْ بالدنيا أعيننا ثم بكى بكاء شديدا حتى ارتفع صوته
الباب الثاني في طول الأمل وفضيلة قصر الأمل وسبب طوله وكيفية
معالجته فَضِيلَةُ قِصَرِ الْأَمَلِ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح وَخُذْ مِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ وَمِنْ صِحَّتِكَ لِسَقَمِكَ فإنك يا عبد الله لا تدري ما اسمك غدا (١) وروى علي كرم الله وجهه أنه صلى الله عليه وسلم قال إِنَّ أَشَدَّ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ خَصْلَتَانِ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَإِنَّهُ يَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَإِنَّهُ الحب للدنيا ثم قال إلا إن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ويبغض وإذا أحب عبدا أعطاه الإيمان ألا إن للدين أبناء وللدنيا أبناء فكونوا من أبناء الدين ولا تكونوا
(١) حديث قال لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ إِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تحدث نفسك بالمساء الحديث أخرجه ابن حبان ورواه البخاري من قول ابن عمر في آخر حديث كن في الدنيا كأنك غريب