للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذلك بأن يخرجه الإنسان وهو من أحل ماله وأجوده فيصدر ذلك عن الرضا والفرح بالبذل وقد يخرج مائة ألف درهم مما يكره من ماله فيدل ذلك على أنه ليس يؤثر الله عز وجل بشيء مما يحبه

وبذلك ذم الله تعالى قوماً جعلوا لله ما يكرهون فقال تعالى ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا وقف بعض القراء على النفي تكذيباً لهم ثم ابتدأ وقال جرم أن لهم النار أي كسب لهم جعلهم لله ما يكرهون النار

الوظيفة الثامنة أن يطلب لصدقته مَنْ تَزْكُو بِهِ الصَّدَقَةُ وَلَا يَكْتَفِي بِأَنْ يَكُونَ مِنْ عُمُومِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فَإِنَّ فِي عمومهم خصوص صفات فليراع خصوص تلك الصفات وهي ستة

الأولى أن يطلب الأتقياء المعرضين عن الدينا المتجردين لتجارة الآخرة قال صلى الله عليه وسلم لَا تَأْكُلْ إِلَّا طَعَامَ تَقِيٍّ وَلَا يَأْكُلْ طعامك إلا تقي (١) وهذا لأن التقي يستعين به على التقوى فتكون شريكاً في طاعته بإعانتك إياه وقال صلى الله عليه وسلم أطعموا طعامكم الأتقياء وأولوا معروفكم المؤمنين (٢) وفي لفظ آخر أضف بطعامك من تحبه في الله تعالى (٣) وكان بعض العلماء يؤثر بالطعام فقراء الصوفية دون غيرهم فقيل له لو عممت بمعروفك جميع الفقراء لكان أفضل فقال لا هؤلاء قوم همهم لله سبحانه فإذا طرقتهما فاقة تشتت هم أحدهم فلأن أرد همة واحد إلى الله عز وجل أحب إلي من أن أعطي ألفاً ممن همته الدنيا فذكر هذا الكلام للجنيد فاستحسنه وقال هذا ولي من أولياء الله تعالى وقال ما سمعت منذ زمان كلاماً أحسن من هذا ثم حكى أن هذا الرجل اختل حاله وهم بترك الحانوت فبعث إليه الجنيد مالاً وقال اجعله بضاعتك ولا تترك الحانوت فإن التجارة لا تضر مثلك وكان هذا الرجل بقالاً لا يأخذ من الفقراء ثمن ما يبتاعون منه

الصفة الثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ خَاصَّةً فَإِنَّ ذَلِكَ إِعَانَةٌ لَهُ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعِلْمُ أَشْرَفُ الْعِبَادَاتِ مَهْمَا صَحَّتْ فِيهِ النِّيَّةُ

وَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يُخَصِّصُ بِمَعْرُوفِهِ أَهْلَ الْعِلْمِ فَقِيلَ لَهُ لَوْ عَمَّمْتَ فَقَالَ إِنِّي لَا أَعْرِفُ بَعْدَ مَقَامِ النُّبُوَّةِ أَفْضَلَ مِنْ مَقَامِ الْعُلَمَاءِ فَإِذَا اشْتَغَلَ قَلْبُ أَحَدِهِمْ بِحَاجَتِهِ لَمْ يَتَفَرَّغْ لِلْعِلْمِ وَلَمْ يُقْبِلْ عَلَى التَّعَلُّمِ فَتَفْرِيغُهُمْ لِلْعِلْمِ أفضل

الصفة الثَّالِثَةُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي تَقْوَاهُ وَعِلْمِهِ بِالتَّوْحِيدِ

وَتَوْحِيدُهُ أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ الْعَطَاءَ حَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَشَكَرَهُ وَرَأَى أَنَّ النِّعْمَةَ منه ولم ينظر إلى واسطة فهذا هو أشكر العباد لله سبحانه وهو أن يرى أن النعمة كلها منه

وفي وصية لقمان لابنه لا تجعل بينك وبين الله منعماً واعدد نعمة غيره عليك مغرماً

ومن شكر غير الله سبحانه فكأنه لم يعرف المنعم ولم يتيقن أن الواسطة مقهور مسخر بتسخير الله عز وجل إذ سلط الله تعالى عَلَيْهِ دَوَاعِيَ الْفِعْلِ وَيَسَّرَ لَهُ الْأَسْبَابَ فَأَعْطَى وهو مقهور ولو أراد تركه لم يقدر عليه بعد أن ألقى الله عز وجل في قلبه أن صلاح دينه ودنياه في فعله

فمهما قوي الباعث أوجب ذلك جزم الإرادة وانتهاض القدرة ولم يستطع العبد مخالفة الباعث القوي الذي لا تردد فيه والله عز وجل خالق للبواعث ومهيجها ومزيل للضعف والتردد عنها ومسخر القدرة للانتهاض بمقتضى البواعث فمن تيقن هذا لم يكن له نظر إلا إلى مسبب الأسباب وتيقن مثل هذا العبد أنفع للمعطي من ثناء غيره وشكره فذلك حركة لسان يقل في الأكثر جدواه وإعانة مثل هذا العبد الموحد لا تضيع وأما الذي يمدح بالعطاء ويدعو بالخير فسيذم بالمنع ويدعو بالشر عند الإيذاء وأحواله متفاوتة

وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم بعث معروفاً إلى بعض الفقراء وقال للرسول احفظ ما يقول فلما أخذ قال الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره ولا يضيع من شكره ثم قال اللهم إنك لم تنس فلاناً يعني نفسه فاجعل فلاناً لا ينساك يعني بفلان نفسه فأخبر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ


(١) حديث لَا تَأْكُلْ إِلَّا طَعَامَ تَقِيٍّ وَلَا يَأْكُلْ طعاعته إلا تقي أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي سعيد بلفظ لا تصحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي
(٢) حديث أطعموا طعامكم الأتقياء وأولوا معروفكم المؤمنين أخرجه ابن المبارك في البر والصلة من حديث أبي سعيد الخدري قال ابن طاهر غريب فيه مجهول
(٣) حديث أضف بطعامك من يحبه الله أخرجه ابن المبارك أنبأنا جويبر عن الضحاك مرسلا

<<  <  ج: ص:  >  >>