على جوازه ثم لا يفرقون فهذا أعظم من الأول فإن جماعة يستدلون بأخذ الشافعي رضي الله عنه على جواز الأخذ ويغفلون عن تفرقته وأخذه على نية التفرقة فالمقتدي والمتشبه به ينبغي أن يحترز عن هذا غاية الاحتراز فإنه يكون فعله سبب ضلال خلق كثير
وقد حكى وهب بن منبه إن رجلاً أتي به إلى ملك بمشهد من الناس ليكرهه على أكل لحم الخنزير فلم يأكل فقدم إليه لحم غنم وأكره بالسيف فلم يأكل فقيل له في ذلك فقال إن الناس قد اعتقدوا أني طولبت بأكل لحم الخنزير فإذا خرجت سالما وقد أكلت فلا يعلمون ماذا أكلت فيضلون
ودخل وهب ابن منبه وطاوس على محمد بن يوسف أخي الحجاج وكان عاملاً وكان في غداة باردة في مجلس بارز فقال لغلامه هلم ذلك الطيلسان وألقه على أبي عبد الرحمن أي طاوس وكان قد قعد على كرسي فألقي عليه فلم يزل يحرك كتفيه حتى ألقى الطيلسان عنه فغضب محمد بن يوسف فقال وهب كنت غنياً عن أن تغضبه لو أخذت الطيلسان وتصدقت به قال نعم لولا أن يقول من بعدي إنه أخذه طاوس ولا يصنع به ما أصنع به إذن لفعلت
الغائلة الثانية أن يتحرك قلبك إلى حبك لتخصيصه إياك وإثاره لك بما أنفذه إليك فإن كان كذلك فلا تقبل ذلك هو السم القاتل والداء الدفين أعني ما يحبب الظلمة إليك فإن من أحببته لا بد أن تحرص عليه وتداهن فيه
قالت عائشة رضي الله عنها جبلت النفوس على حب من أحسن إليها
وقال عليه السلام اللهم لا تجعل لفاجر عندي يداً فيحبه قلبي (١)
بين صلى الله عليه وسلم إن القلب لا يكاد يمتنع من ذلك
وروي أن بعض الأمراء أرسل إلى مالك بن دينار بعشرة آلاف درهم فأخرجها كلها فأتاه محمد بن واسع فقال ما صنعت بما أعطاك هذا المخلوق قال سل أصحابي فقالوا أخرجه كله فقال
أنشدك الله أقلبك أشد حباً له الآن أم قبل أن أرسل إليك لا بل الآن قال إنما كنت أخاف هذا
وقد صدق فإنه إذا أحبه أحب بقاءه وكره وعزله ونكبته وموته وأحب اتساع ولايته وكثرة ماله وكل ذلك حب لأسباب الظلم وهو مذموم
قال سلمان وابن مسعود رضي الله عنهما من رضي بأمر وإن غاب عنه كان كمن شهده قال تعالى {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا} قيل لا ترضوا بأعمالهم فإن كنت في القوة بحيث لا تزداد حبالهم بذلك فلا بأس بالأخذ
وقد حكي عن بعض عباد البصرة أنه كان يأخذ أموالاً ويفرقها فقيل له ألا تخاف أن تحبهم فقال لو أخذ رجل بيدي وأدخلني الجنة ثم عصى ربه ما أحبه قلبي لأن ما الذي سخره للأخذ بيدي هو الذي أبغضه لأجله شكرا له على تصخيره إياه
وبهذا تبين أخذ المال الآن منهم وإن كان ذلك المال بعينه من وجه حلال محذور ومذموم لأنه لا ينفك عن هذه الغوائل
مسألة إن قال قائل إذا جاز أخذ ماله وتفرقته فهل يجوز أن يسرق ماله أو تخفى وديعته وتنكر وتفرق على الناس فنقول ذلك غير جائز لأنه ربما يكون له مالك معين وهو على عزم أن يرده عليه وليس هذا كما لو بعثه إليك فإن العاقل لا يظن به أنه يتصدق بما يعلم مالكه فيدل تسليمه على أنه لا يعرف مالكه فإن كان ممن يشكل عليه مثله فلا يجوز أن يقبل منه المال مالم يعرف ذلك ثم كيف يسرق ويحتمل أن يكون ملكه قد حصل له بشراء في ذمته فإن اليد دلالة على الملك
فهذا لا سبيل إليه بل لو وجد لقطة وظهر أن صاحبها جندي واحتمل أن تكون له بشراء في الذمة أو غيره وجب الرد عليه
فإذاً لا يجوز سرقة مالهم لا منهم ولا ممن أودع عنده
ولا يجوز إنكار وديعتهم ويجب الحد على سارق ما لهم إلا إذا ادعى السارق أنه ليس ملكاً لهم فعند ذلك يسقط الحد بالدعوى
(١) حديث اللهم لا تجعل لفاجر عندي يداً فيحبه قلبي أخرجه ابن مردويه في التفسير من رواية كثير بن عطية عن رجل لم يسم ورواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث معاذ وأبو موسى المديني في كتاب تضييع العمر والأيام مرسلا وأسانيده كلها ضعيفة