للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واللسان والقلب والسر والعلانية والجماعة والخلوة والاختلاف والتفاوت في شيء من ذلك مماذقة في المودة وهو دخل في الدين ووليجة في طريق المؤمنين ومن لا يقدر من نفسه على هذا فالانقطاع والعزلة أولى به من المؤاخاة والمصاحبة فإن حق الصحبة ثقيل لا يطيقه إلا محقق فلا جرم أجره جزيل لا يناله إلا موفق

ولذلك قال عليه السلام أبا هر أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً وأحسن مصاحبة صاحبك تكن مؤمناً (١)

فانظر كيف جعل الإيمان جزاء الصحبة والإسلام جزاء الجوار فالفرق بين فضل الإسلام على حد الفرق بين المشقة في القيام بحق الجوار والقيام بحق الصحبة

فإن الصحبة تقتضي حقوقاً كثيرة في أحوال متقاربة مترادفة على الدوام والجوار لا يقتضي إلا حقوقاً قريبة في أوقات متباعدة لا تدوم

ومن ذلك التعليم والنصيحة فليس حاجة أخيك إِلَى الْعِلْمِ بِأَقَلَّ مِنْ حَاجَتِهِ إِلَى الْمَالِ فَإِنْ كُنْتَ غَنِيًّا بِالْعِلْمِ فَعَلَيْكَ مُوَاسَاتُهُ مِنْ فَضْلِكَ وَإِرْشَادُهُ إِلَى كُلِّ مَا يَنْفَعُهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَإِنْ عَلَّمْتَهُ وَأَرْشَدْتَهُ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ فَعَلَيْكَ النَّصِيحَةُ وَذَلِكَ بِأَنْ تَذْكُرَ آفَاتِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَفَوَائِدَ تَرْكِهِ وَتُخَوِّفَهُ بِمَا يَكْرَهُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِيَنْزَجِرَ عَنْهُ وَتُنَبِّهَهُ على عيوبه وتقبح القبيح في عينه وتحسن الحسن وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي سِرٍّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَمَا كَانَ عَلَى الملأ فهو توبيخ وفضيحة وَمَا كَانَ فِي السِّرِّ فَهُوَ شَفَقَةٌ وَنَصِيحَةٌ إذ قال صلى الله عليه وسلم المؤمن مرآة المؤمن (٢)

أي يرى منه ما لا يرى من نفسه فيستفيد المرء بأخيه معرفة عيوب نفسه ولو انفرد لم يستفد كما يستفيد بالمرآة الوقوف على عيوب صورته الظاهرة

وقال الشافعي رضي الله عنه من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه

وقيل لمسعر أتحب من يخبرك بعيوبك فقال إن نصحني فيما بيني وبينه فنعم وإن قرعني بين الملأ فلا

وقد صدق فإن النصح على الملأ فضيحة والله تعالى يعاتب المؤمن يوم القيامة تحت كنفه في ظل ستره فيوقفه على ذنوبه سراً وقد يدفع كتاب عمله مختوماً إلى الملائكة الذين يحفون به إلى الجنة فإذا قاربوا باب الجنة أعطوه الكتاب مختوماً ليقرأه وأما أهل المقت فينادون على رءوس الأشهاد وتستنطق جوارحهم بفضائحهم فيزدادون بذلك خزياً وافتضاحاً ونعوذ بالله من الخزي يوم العرض الأكبر

فالفرق بين التوبيخ والنصيحة بالإسرار والإعلان كما أن الفرق بين المداراة والمداهنة بالغرض الباعث على الإغضاء

فإن أغضيت لسلامة دينك ولما ترى من إصلاح أخيك بالإغضاء فأنت مدار وإن أغضيت لحظ نفسك واجتلاب شهواتك وسلامة جاهك فأنت مداهن

وقال ذو النون لَا تَصْحَبْ مَعَ اللَّهِ إِلَّا بِالْمُوَافَقَةِ وَلَا مَعَ الْخَلْقِ إِلَّا بِالْمُنَاصَحَةِ وَلَا مع النفس إلا بالمخالفة ولا مع الشيطان إلا بالعداوة

فإن قلت فإذا كان في النصح ذكر العيوب ففيه إيحاش القلب فكيف يكون ذلك من حق الأخوة فاعلم أن الإيحاش إنما يحصل بذكر عيب يعلمه أخوك من نفسه فأما تنبيهه على ما لا يعمله فهو عَيْنَ الشَّفَقَةِ وَهُوَ اسْتِمَالَةُ الْقُلُوبِ أَعْنِي قُلُوبَ الْعُقَلَاءِ وَأَمَّا الْحَمْقَى فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِمْ فَإِنَّ مَنْ يُنَبِّهُكَ عَلَى فِعْلٍ مَذْمُومٍ تَعَاطَيْتَهُ أَوْ صِفَةٍ مَذْمُومَةٍ اتَّصَفْتَ بِهَا لِتُزَكِّيَ نَفْسَكَ عَنْهَا كَانَ كَمَنْ يُنَبِّهُكَ عَلَى حَيَّةٍ أَوْ عَقْرَبٍ تَحْتَ ذَيْلِكَ وَقَدْ هَمَّتْ بِإِهْلَاكِكَ فَإِنْ كُنْتَ تَكْرَهُ ذَلِكَ فَمَا أَشَدَّ حُمْقَكَ وَالصِّفَاتُ الذَّمِيمَةُ عَقَارِبُ وَحَيَّاتٌ وَهِيَ فِي الْآخِرَةِ مُهْلِكَاتٌ فَإِنَّهَا تلذغ الْقُلُوبَ وَالْأَرْوَاحَ وَأَلَمُهَا أَشَدُّ مِمَّا يَلْدَغُ الظَّوَاهِرَ وَالْأَجْسَادَ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ مِنْ نَارِ اللَّهِ الْمُوقَدَةِ ولذلك كان عمر رضي الله عنه


(١) حديث أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً وأحسن مصاحبة من صاحبك تكن مؤمنا أخرجه الترمذي وابن ماجه واللفظ له من حديث أبي هريرة بالشطر الأول فقط وقال الترمذي {مؤمنا} قال وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا وقال ابن ماجه {مؤمنا} قال الدارقطني والحديث ثابت ورواه القضاعي في مسند الشهاب بلفظ المصنف
(٢) حديث المؤمن مرآة المؤمن أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة بإسناد حسن

<<  <  ج: ص:  >  >>