وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْوَفَاءِ مُوَافَقَةُ الْأَخِ فِيمَا يُخَالِفُ الْحَقَّ فِي أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ بل الوفاء له المخالفة فقد كان الشافعي رضي الله عنه آخى محمد بن عبد الحكم وكان يقربه ويقبل عليه ويقول ما يقيمني بمصر غيره فاعتل محمد فعاده الشافعي رحمه الله تعالى فقال
مرض الحبيب فعدته ... فمرضت من حذري عليه
وأتى الحبيب يعودني ... فبرئت من نظري إليه
وظن الناس لصدق مودتهما أنه يفوض أمر حلقته إليه بعد وفاته فقيل للشافعي في علته التي مات فيها رضي الله تعالى عنه إلى من نجلس بعدك يا أبا عبد الله فاستشرف له محمد بن عبد الحكم وهو عند رأسه ليومئ إليه فقال الشافعي سبحان الله أيشك في هذا أبو يعقوب البويطي فانكسر لها محمد ومال أصحابه إلى البويطي مع أن محمداً كان قد حمل عنه مذهبه كله لكن كان البويطي أفضل وأقرب إلى الزهد والورع
فنصح الشافعي لله وللمسلمين وترك المداهنة ولم يؤثر رضا الخلق على رضا الله تعالى فلما توفي انقلب محمد بن عبد الحكم عن مذهبه ورجع إلى مذهب أبيه ودرس كتب مالك رحمه الله وهو من كبار أصحاب مالك رحمه الله
وآثر البويطي الزهد والخمول ولم يعجبه الجمع والجلوس في الحلقة واشتغل بالعبادة وصنف كتاب الأم الذي ينسب الآن إلى الربيع بن سليمان ويعرف به وإنما صنفه البويطي ولكن لم يذكر نفسه فيه ولم ينسبه إلى نفسه فزاد الربيع فيه وتصرف وأظهره
والمقصود أن الوفاء بالمحبة من تمامها النصح لله
قال الأحنف الإخاء جوهرة رقيقة إن لم تحرسها كانت معرضة للآفات فاحرسها بالكظم حتى تعتذر إلى من ظلمك وبالرضا حتى لا تستكثر من نفسك الفضل ولا من أخيك التقصير
وَمِنْ آثَارِ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ وَتَمَامِ الْوَفَاءِ أَنْ تَكُونَ شَدِيدَ الْجَزَعِ مِنَ الْمُفَارَقَةِ نَفُورَ الطَّبْعِ عَنْ أَسْبَابِهَا كَمَا قِيلَ
وَجَدْتُ مُصِيبَاتِ الزَّمَانِ جَمِيعَهَا ... سِوَى فُرْقَةِ الْأَحْبَابِ هَيِّنَةَ الْخَطْبِ
وَأَنْشَدَ ابْنُ عُيَيْنَةَ هَذَا الْبَيْتَ وَقَالَ لَقَدْ عَهِدْتُ أَقْوَامًا فَارَقْتُهُمْ مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً مَا يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنَّ حَسْرَتَهُمْ ذَهَبَتْ مِنْ قَلْبِي
وَمِنَ الْوَفَاءِ أَنْ لَا يَسْمَعَ بَلَاغَاتِ النَّاسِ عَلَى صديقه لاسيما من يظهر أولاً أنه محب لصديقه كيلا يتهم ثم يلقي الكلام عرضاً وينقل عن الصديق ما يوغر القلب فذلك من دقائق الجيل في التضريب ومن لم يحترز منه لم تدم مودته أصلاً
قال واحد لحكيم قد جئت خاطباً لمودتك قال إن جعلت مهرها ثلاثاً فعلت قال وما هي قال لا تسمع علي بلاغة ولا تخالفني في أمر ولا توطئني عشوة
وَمِنَ الْوَفَاءِ أَنْ لَا يُصَادِقَ عَدُوَّ صَدِيقِهِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِذَا أَطَاعَ صَدِيقُكَ عدوك فقد اشتركا في عدواتك الْحَقُّ الثَّامِنُ التَّخْفِيفُ وَتَرْكُ التَّكَلُّفِ وَالتَّكْلِيفِ
وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يُكَلِّفَ أَخَاهُ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ بَلْ يُرَوِّحُ سِرَّهُ مِنْ مُهِمَّاتِهِ وَحَاجَاتِهِ وَيُرَفِّهُهُ عن أن يحمله شيئاً من أعبائه فلا يستمد منه من جاه ومال ولا يكلف التواضع له والتفقد لأحواله والقيام بِحُقُوقِهِ بَلْ لَا يَقْصِدُ بِمَحَبَّتِهِ إِلَّا اللَّهَ تعالى تبركاً بدعائه واستئناساً بلقائه واستعانة به على دينه وَتَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ وَتَحَمُّلِ مُؤْنَتِهِ
قَالَ بَعْضُهُمْ مَنِ اقْتَضَى مِنْ إِخْوَانِهِ ما لا يقضونه فَقَدْ ظَلَمَهُمْ وَمَنِ اقْتَضَى مِنْهُمْ مِثْلَ مَا يقتضونه فقد أتعبهم ومن لم يقتض فهو المتفضل عليهم
وقال بعض الحكماء من جعل نفسه عند الإخوان فوق قدره أثم وأثموا ومن جعل نفسه في قدره تعب وأتعبهم ومن جعلها دون قدره سلم وسلموا تمام التخفيف بطي بساط التكليف