للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والنهي وان كان عاما فهو محمول على ما وراء الموضعين المخصوصين بدليل ما روي عن عائشة رضي الله عنها

أن النبي صلى الله عليه وسلم هجرها ذا الحجة والمحرّم وبعض صفر (١)

وروى عن عمر أنه صلى الله عليه وسلم اعتزل نساءه وآلى منهن شهرا وصعد إلى غرفة له وهى خزانته فلبث تسعا وعشرين يوما فلما نزل قيل له إنك كنت فيها تسعا وعشرين فقال الشهر قد يكون تسعا وعشرين (٢)

وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثلاثة أيام إلا أن يكون ممن لا تؤمن بوائقه (٣)

فهذا صريح في التخصيص وعلى هذا ينزل قول الحسن رحمه الله حيث قال هجران الأحمق قربة إلى الله فإن ذلك يدوم إلى الموت إذ الحماقة لا ينتظر علاجها

وذكر عند محمد بن عمر الواقدي رجل هجر رجلا حتى مات فقال هذا شيء قدم تقدّم فيه قوم سعد بن أبي وقاص كان مهاجرا لعمار بن ياسر حتى مات وعثمان بن عفان كان مهاجرا لعبد الرحمن بن عوف وعائشة كانت مهاجرة لحفصة

وكان طاوس مهاجرا لوهب بن منبه حتى ماتا

وكل ذلك يحمل على رؤيتهم سلامتهم في المهاجرة

واحتجوا بما روى أن رجلا أتى الجبل ليتعبد فيه فجيء به إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لا تفعل أنت ولا أحد منكم لصبر أحدكم في بعض مواطن الإسلام خير له من عبادة أحدكم وحده أربعين عاما (٤)

والظاهر أنّ هذا إنما كان لما فيه من ترك الجهاد مع شدة وجوبة في ابتداء الإسلام بدليل ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال غزونا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمررنا بشعب فيه عيينة طيبة الماء فقال واحد من القوم لو اعتزلت الناس في هذا الشعب ولن أفعل ذلك حتى أذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم لا تفعل فان مقام أحدكم في سبيل الله خير من صلاته في أهله ستين عاما ألا تحبون أن يغفر الله لكم وتدخلون الجنة اغزوا في سبيل الله فانه من قاتل في سبيل الله فواق ناقة أدخله الله الجنة (٥)

واحتجوا بما روى معاذ بن جبل أنه صلى الله عليه وسلم قال ان الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ القاصية والناحية والشاردة وإياكم والشعاب وعليكم بالعامة والجماعة والمساجد (٦)

وهذا إنما أراد به من اعتزل قبل تمام الغلم وسيأتي بيان ذلك وأن ذلك ينهى عنه إلا لضرورة

ذكر حجج المائلين إلى تفضيل العزلة

احتجوا بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام {وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي} الآية ثم قال تعالى فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحق ويعقوب وكلاً جعلنا نبياً إشارة إلى أن ذلك ببركة العزلة

وهذا ضعيف لأن مخالطة الكفار لا فائدة فيها إلا دعوتهم الى الدين

وعند اليأس من إجابتهم فلا وجه


(١) حديث أنه صلى الله عليه وسلم هجر عائشة ذا الحجة والمحرّم وبعض صفر قلت إنما هجر زينب هذه المدة كما رواه أبو داود من حديث عائشة وسكت عليه فهو عنده صالح
(٢) حديث عمر أنه صلى الله عليه وسلم اعتزل نساءه وآلى منهن شهرا الحديث متفق عليه
(٣) حديث عائشة لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثلاث إلا أن يكون ممن لا يأمن بوائقه أخرجه ابن عدي وقال غريب المتن والإسناد وحديث عائشة عند أبي داود دون الاستثناء بإسناد صحيح
(٤) حديث أن رجلا أتى الجبل ليتعبد فيه فجىء به إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لا تفعل الحديث أخرجه البيهقي من حديث عسعس ابن سلامة قال ابن عبد البر يقولون إن حديثه مرسل وكذا ذكره ابن حبان في ثقات التابعين
(٥) حديث أبي هريرة غزونا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فمررنا بشعب فيه عيينة طيبة الماء غزيرة فقال واحد من القوم لو اعتزلت الناس في هذا الشعب الحديث أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم إلا أن الترمذي قال سبعين عاما
(٦) حديث معاذ بن جبل الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ القاصية أخرجه أحمد والطبراني ورجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعا

<<  <  ج: ص:  >  >>