للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفائدة الخامسة أن ينقطع طمع الناس عنك وينقطع طمعك عن الناس

فأما انقطاع طمع الناس عنك ففيه فوائد فإن رضا الناس غاية لا تدرك فاشتغال المرء بإصلاح نفسه أولى ومن أهون الحقوق وأيسرها حضور الجنازة وعيادة المريض وحضور الولائم والإملاكات وفيها تضييع الأوقات وتعرض للآفات ثم قد تعوق عن بعضها العوائق وتستقبل فيها المعاذير ولا يمكن إظهار كل الأعذار فيقولون له قمت بحق فلان وقصرت في حقنا ويصير ذلك سبب عداوة فقد قيل من لم يعد مريضاً في وقت العيادة اشتهى موته خيفة من تخجيله إذا صح على تقصيره

ومن عمم الناس كلهم بالحرمان رضوا عنه كلهم ولو خصص استوحشوا

وتعميمهم بجميع الحقوق لا يقدر عليه المتجرد له طول الليل والنهار فكيف من له مهم يشغله في دين أو دنيا قال عمرو بن العاص كثرة الأصدقاء كثرة الغرماء

وقال ابن الرومي

عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرن من الصحاب

فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب

وقال الشافعي رحمه الله أصل كل عداوة اصطناع المعروف الى اللئام

وأما انقطاع طمعك عنهم فهو أيضاً فائدة جزيلة فإن من نظر الى زهرة الدنيا وزينتها تحرك حرصه وانبعث بقوّة الحرص طمعه ولا يرى إلا الخيبة في أكثر الأحوال فيتأذى بذلك

ومهما اعتزل لم يشاهد وإذا لم يشاهد لم يشته ولم يطمع ولذلك قال الله تَعَالَى {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا به أزواجاً منهم} وقال صلى الله عليه وسلم انظروا الى من هو دونكم ولا تنظروا الى من هو فوقكم فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم (١)

وقال عون بن عبد الله كنت أجالس الأغنياء فلم أزل مغموماً كنت أرى ثوباً أحسن من ثوبي ودابة أفره من دابتي فجالست الفقراء فاسترحت

وحكى أن المزني رحمه الله خرج من باب جامع الفسطاط وقد أقبل ابن عبد الحكم في موكبه فبهره ما رأى من حسن حاله وحسن هيئته فتلا قوله تعالى {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون} ثم قال بلى أصبر وأرضى وكان فقيراً مقلاً

فالذي هو في بيته لا يبتلى بمثل هذه الفتن

فإن من شاهد زينة الدنيا فأما أن يقوى دينه ويقينه فيصبر الى أن يتجرع مرارة الصبر وهو أمر من الصبر أو تنبعث رغبته فيحتال في طلب الدنيا فيهلك هلاكاً مؤبداً أما في الدنيا فبالطمع الذي يخيب في أكثر الأوقات فليس كل من يطلب الدنيا تتيسر له وأما في الآخرة فإيثاره متاع الدنيا على ذكر الله تعالى والتقرب إليه

ولذلك قال ابن الإعرابي

إذا كان باب الذل من جانب الغنى ... سموت الى العلياء من جانب الفقر

أشار الى أن الطمع يوجب في الحال ذلاً

الفائدة السادسة الخلاص من مشاهدة الثقلاء والحمقى ومقاساة حمقهم

وأخلاقهم فإن رؤية الثقيل هي العمى الأصغر

قيل للأعمش مم عمشت عيناك قال من النظر الى الثقلاء

ويحكى أنه دخل عليه أبو حنيفة فقال في الخبر {أن من}


(١) حديث انظروا الى من هو دونكم ولا تنظروا الى من هو فوقكم فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة

<<  <  ج: ص:  >  >>