سلب الله كريمتيه عوضه الله عنهما ما هو خير منهما (١)
فما الذي عوضك فقال في معرض المطايبة عوضني الله منهما أنه كفاني رؤية الثقلاء وأنت منهم
وقال ابن سيرين سمعت رجلاً يقول نظرت الى ثقيل مرة فغشى علي
وقال جالينوس لكل شيء حمى وحمى الروح النظر الى الثقلاء
وقال الشافعي رحمه الله ما جالست ثقيلاً إلا وجدت الجانب الذي يليه من بدني كأنه أثقل علي من الجانب الآخر
وهذه الفوائد ما سوى الأوليين متعلقة بالمقاصد الدنيوية الحاضرة ولكنها أيضاً تتعلق بالدين
فإن الإنسان مهما تأذى برؤية ثقيل لم يأمن أن يغتابه وأن يستنكر ما هو صنع الله فإذا تأذى من غيره بغيبة أو سوء ظن أو محاسدة أو نميمة أو غير ذلك لم يصبر عن مكافأته
وكل ذلك يجر الى فساد الدين وفي العزلة سلامة عن جميع ذلك فليفهم آفات العزلة
اعلم أن من المقاصد الدينية والدنيوية ما يستفاد بالاستعانة بالغير ولا يحصل ذلك إلا بالمخالطة
فكل ما يستفاد من المخالطة يفوت بالعزلة وفواته من آفات العزلة
فانظر الى فوائد المخالطة والدواعي اليها ما هي وهي التعليم والتعلم والنفع والانتفاع والتأديب والتأدب والاستيناس وَالْإِينَاسُ وَنَيْلُ الثَّوَابِ وَإِنَالَتُهُ فِي الْقِيَامِ بِالْحُقُوقِ واعتياد التواضع واستفادة التجارب من مشاهدة الأحوال والاعتبار بها
فلنفصل ذلك فإنها من فوائد المخالطة وهي سبع
الفائدة الأولى التعليم والتعلم
وقد ذكرنا فضلهما في كتاب العلم وهما أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ فِي الدُّنْيَا
وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ إلا بالمخالطة إلا أن العلوم كثيرة وعن بعضها مندوحة وبعضها ضروري في الدنيا
فالمحتاج إِلَى التَّعَلُّمِ لِمَا هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ عَاصٍ بالعزلة
وإن تعلم الفرض وكان لا يتأتى منه الخوض في العلوم ورأى الإشتغال بالعبادة فليعتزل
وإن كَانَ يَقْدِرُ عَلَى التَّبَرُّزِ فِي عُلُومِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ فَالْعُزْلَةُ فِي حَقِّهِ قَبْلَ التَّعَلُّمِ غَايَةُ الْخُسْرَانِ
وَلِهَذَا قَالَ النخعي وَغَيْرُهُ تَفَقَّهْ ثُمَّ اعتزل فمن اعْتَزَلَ قَبْلَ التَّعَلُّمِ فَهُوَ فِي الْأَكْثَرِ مُضَيِّعٌ أَوْقَاتَهُ بِنَوْمٍ أَوْ فِكْرٍ فِي هَوَسٍ وَغَايَتُهُ أن يستغرق الْأَوْقَاتِ بِأَوْرَادٍ يَسْتَوْعِبُهَا وَلَا يَنْفَكُّ فِي أَعْمَالِهِ بالبدن والقلب عن أنواع من الغرور يخيب سعيه ويبطل عمله بحيث لا يدري ولا ينفك اعتقاده في الله وصفاته عن أوهام يتوهمها ويأنس بها وعن خواطر فاسدة تعتريه فيها فيكون فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ ضُحْكَةٌ لِلشَّيْطَانِ وَهُوَ يَرَى نَفْسَهُ مِنَ الْعُبَّادِ
فَالْعِلْمُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ فلا خير في عزلة العوام والجهال أعني من لا يحسن العبادة في الخلوة ولا يعرف جميع ما يلزم فيها
فمثال النفس مثال مريض يحتاج الى طبيب متلطف يعالجه فالمريض الجاهل إذا خلا بنفسه عن الطبيب قبل أن يتعلم الطب تضاعف لا محالة مرضه
فلا تليق العزلة إلا بالعالم وَأَمَّا التَّعْلِيمُ فَفِيهِ ثَوَابٌ عَظِيمٌ مَهْمَا صَحَّتْ نية المعلم والمتعلم
ومهما كان القصد إقامة الجاه والاستكثار بالأصحاب والأتباع فهو هلاك الدين
وقد ذكرنا وجه ذلك في كتاب العلم
وحكم في العالم في هذا الزمان إن يعتزل إن أراد سلامة دينه
فإنه لا يرى مستفيداً يطلب فائدة لدينه بل لا طالب إلا لكلام مزخرف يستميل به العوام في معرض الوعظ أو الجدل معقد يتوصل به الى إفحام الأقران ويتقرب به الى السلطان ويستعمل في معرض المنافسة والمباهاة وأقرب علم مرغوب فيه المذهب ولا يطلب غالباً إلا للتوصل الى التقدم على الأمثال وتولي الولايات واجتلاب الأموال
فهؤلاء كلهم يقتضي الدين والحزم الإعتزال عنهم
(١) حديث من سلب الله كريمتيه عوضه عنهما ما هو خير منهما أخرجه الطبراني بإسناد ضعيف من حديث جرير من سلبت كريمتيه عوضته عنهما الجنة وله ولأحمد نحوه من حديث أبي أمامة بسند حسن وللبخاري من حديث أنس يقول الله تبارك وتعالى إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ثم صبر عوضته منهما الجنة يريد عينيه