فإن صودف طالب لله ومتقرب بالعلم الى الله فأكبر الكبائر الإعتزال عنه وكتمان العلم منه وهذا لا يصادف في بلدة كبيرة أكثر من واحد أو اثنين إن صودف
ولا ينبغي أن يغتر الإنسان بقول سفيان تعلمنا العلم لغير الله فأبى العلم أن يكون إلا لله فإن الفقهاء يتعلمون لغير الله ثم يرجعون الى الله
وانظر الى أواخر أعمار الأكثرين منهم واعتبرهم أنهم ماتوا وهم هلكى على طلب الدنيا ومتكالبون عليها أو راغبون عنها وزاهدون فيها وليس الخبر كالمعاينة
واعلم أن العلم الذي أشار اليه سفيان هو علم الحديث وتفسير القرآن ومعرفة سير الأنبياء والصحابة فإن فيها التخويف والتحذير وهو سبب لإثارة الخوف من الله فإن لم يؤثر في الحال أثر في المآل
وأما الكلام والفقه المجرّد الذي يتعلق بفتاوى المعاملات وفصل الخصومات المذهب منه والخلاف لا يرد الراغب فيه للدنيا الى الله بل لا يزال متمادياً في حرصه الى آخر عمره
ولعل ما أودعناه هذا الكتاب إن تعلمه المتعلم رغبة في الدنيا فيجوز أن يرخص فيه إذ يرجى أن ينزجر به في آخر عمره فإنه مشحون بالتخويف بالله والترغيب في الآخرة والتحذير من الدنيا وذلك مما يصادف في الأحاديث وتفسير القرآن ولا يصادف في كلام ولا في خلاف ولا في مذهب
فلا ينبغي أن يخادع الإنسان نفسه فإن المقصر العالم بتقصيره أسعد حالاً من الجاهل المغرور أو المتجاهل المغبون وكل عالم اشتد حرصه على التعليم يوشك أن يكون غرضه القبول والجاه وحظه تلذذ النفس في الحال باستشعار الإدلال على الجهال والتكبر عليهم فآفة العلم الخيلاء (١)
كما قال صلى الله عليه وسلم
ولذلك حكي عن بشر أنه دفن سبعة عشر قمطراّ من كتب الأحاديث التي سمعها وكان لا يحدث ويقول أني أشتهي أن أحدث فلذلك لا أحدث ولو اشتهيت أن لا أحدث لحدثت ولذلك قال حدثنا باب من أبواب الدنيا وإذا قال الرجل حدثنا فإنما يقول أوسعوا لي
وقالت رابعة العدوية لسفيان الثوري نعم الرجل أنت لولا رغبتك في الدنيا قال وفيماذا رغبت قالت في الحديث
ولذلك قال أبو سليمان الداراني من تزوج أو طلب الحديث أو اشتغل بالسفر فقد ركن إلى الدنيا
فهذه آفات قد نبهنا عليها في كتاب العلم والحزم الاحتراز بالعزلة وترك الاستكثار من الأصحاب ما أمكن بل الذي يطلب الدنيا بتدريسه وتعليمه فالصواب له إن كان غافلاً في مثل هذا الزمان أن يتركه
فلقد صدق أبو سليمان الخطابي حيث قال دع الراغبين في صحبتك والتعلم منك فليس لك منهم مال ولا جمال إخوان العلانية أعداء السر إذا لقوك تملقوك وإذا غبت عنهم سلقوك من أتاك منهم كان عليك رقيباً وإذا خرج كان عليك خطيباً أهل نفاق ونميمة وغل وخديعة فلا تغتر باجتماعهم عليك فما غرضهم العلم بل الجاه والمال وأن يتخذوك سلماً الى أوطارهم وأغراضهم وحمارا في حاجاتهم إن قصرت في غرض من أغراضهم كانوا أشد أعدائك ثم يعدون ترددهم إليك دالة عليك ويرونه حقاً واجباً لديك ويفرضون عليك أن تبذل عرضك وجاهك ودينك لهم فتعادي عدوهم وتنصر قريبهم وخادمهم ووليهم وتنتهض لهم سفيهاً وقد كنت فقيهاً وتكون لهم تابعاً خسيساً بعد أن كنت متبوعاً رئيساً
ولذلك قيل اعتزال العامة مروءة تامة
فهذا معنى كلامه وإن خالف بعض ألفاظه وهو حق وصدق
فإنك ترى المدرسين في رق دائم وتحت حق لازم ومنة ثقيلة ممن يتردد اليهم فكأنه يهدي تحفة اليهم ويرى حقه واجباً عليهم
وربما لا يختلف اليه ما لم يتكفل برزق له على الإدرار
ثم إن المدرس المسكين قد يعجز عن القيام بذلك من ماله فلا يزال متردداً الى أبواب السلاطين ويقاسي الذل والشدائد مقاساة الذليل
(١) حديث آفة العلم الخيلاء المعروف ما رواه مطين في مسنده من حديث علي بن أبي طالب بسند ضعيف آفة العلم النسيان وآفة الحمال الخيلاء