المهين حتى يكتب له على بعض وجوه السحت مال حرام ثم لا يزال العامل يسترقه ويستخدمه ويمتهنه ويستذله الى أن يسلم إليه ما يقدره نعمة مستأنفة من عنده عليه ثم يبقى في مقاساة القسمة على أصحابه إن سوّى بينهم مقته المميزون ونسبوه الى الحمق وقلة التمييز والقصور عن درك مصارفات الفضل والقيام بمقادير الحقوق بالعدل وإن فاوت بينهم سلقه السفهاء بألسن حداد وثاروا عليه ثوران الأساود والآساد فلا يزال في مقاساتهم في الدنيا وفي مطالبة ما يأخذه ويفرقه عليهم في العقبى
والعجب أنه مع هذا البلاء كله يمني نفسه بالأباطيل ويدليها بحبل الغرور ويقول لها لا تفتري عن صنيعك فإنما أنت بما تفعلينه مريدة وجه الله تعالى ومذيعة شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشرة علم دين الله وقائمة بكفاية طلاب العلم من عباد الله وأموال السلاطين لا مالك لها وهي مرصدة للمصالح وأي مصلحة أكبر من تكثير أهل العلم فبهم يظهر الدين ويتقوى أهله
ولو لم يكن ضحكة للشيطان لعلم بأدنى تأمل أن فساد الزمان لا سبب له إلا كثرة أمثال أولئك الفقهاء الذين يأكلون ما يجدون ولا يميزون بين الحلال والحرام فتلحظهم أعين الجهال ويستجرئون على المعاصي باستجرائهم اقتداء بهم واقتفاء لآثارهم
ولذلك قيل ما فسدت الرعية إلا بفساد الملوك وما فسدت الملوك إلا بفساد العلماء
فنعوذ بالله من الغرور والعمى فإنه الداء الذي ليس له دواء
الفائدة الثانية النفع والإنتفاع
أما الإنتفاع بالناس فبالكسب والمعاملة
وذلك لا يتأتى إلا بالمخالطة والمحتاج إليه مضطر الى ترك العزلة فيقع في جهاد من المخالطة أن طلب موافقة الشرع فيه كما ذكرناه في كتاب الكسب فإن كان معه مال لو اكتفى به قانعاً لأقنعه فالعزلة أفضل له إذا انسدت طرق المكاسب في الأكثر إلى من المعاصي إلا أن يكون غرضه الكسب للصدقة
فإذا اكتسب من وجهه وتصدق به فهو أفضل من العزلة للاشتغال بالنافلة وليس بأفضل من العزلة للاشتغال بالتحقق في معرفة الله ومعرفة علوم الشرع ولا من الإقبال بكنه الهمة على الله تعالى والتجرد بها لذكر الله أعني من حصل له أنس بمناجاة الله عن كشف وبصيرة لا عن أوهام وخيالات فاسدة
وَأَمَّا النَّفْعُ فَهُوَ أَنْ يَنْفَعَ النَّاسَ إِمَّا بِمَالِهِ أَوْ بِبَدَنِهِ فَيَقُومُ بِحَاجَاتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْحِسْبَةِ
فَفِي النُّهُوضِ بِقَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ ثَوَابٌ وَذَلِكَ لَا يُنَالُ إِلَّا بِالْمُخَالَطَةِ
وَمَنْ قَدَرَ عليها مع القيام بحدود الشرع فهي أفضل له من العزلة إن كان لا يشتغل في عزلته إلا بنوافل الصلوات والأعمال البدنية وإن كان ممن انفتح له طريق العمل بالقلب بدوام ذكر أو فكر فذلك لا يعدل به غيره ألبتة
الفائدة الثالثة التأديب وَالتَّأَدُّبِ
وَنَعْنِي بِهِ الِارْتِيَاضَ بِمُقَاسَاةِ النَّاسِ وَالْمُجَاهَدَةِ فِي تَحَمُّلِ أَذَاهُمْ كَسْرًا لِلنَّفْسِ وَقَهْرًا لِلشَّهَوَاتِ
وهي من الفوائد التي تستفاد بالمخالطة وهي أفضل من العزلة في حق من لم تتهذب أخلاقه ولم تذعن لحدود الشرع شهواته ولهذا انتدب خدام الصوفية في الرباطات فيخالطون الناس بخدمتهم وأهل السوق للسؤال منهم كبرا لرعونة النفس واستمدادا من بركة دعاء الصوفية المنصرفين بهممهم الى الله سبحانه
وكان هذا هو المبدأ في الأعصار الخالية والآن قد خالطته الأغراض الفاسدة ومال ذلك عن القانون كما مالت سائر شعائر الدين فصار يطلب من التواضع بالخدمة التكثير بالاستتباع والتذرّع الى جمع المال والاستظهار بكثرة الأتباع فإن كانت النية هذه فالعزلة خير من ذلك ولو الى القبر وإن كانت النية رياضة النفس فهي خير من العزلة في حق المحتاج الى الرياضة وذلك مما يحتاج إليه في بداية الإرادة فبعد حصول الارتياض ينبغي أن يفهم أن الدابة لا يطلب من رياضتها عين رياضتها بل المراد منها أن تتخذ