للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهو الذي يقصد به الرياء وإظهار الأحوال الشريفة مع الإفلاس منها ومنه ما هو محمود وهو التوصل إلى استدعاء الأحوال الشريفة واكتسابها واجتلابها بالحيلة فإن للكسب مدخلاً في جلب الأحوال الشريفة ولذلك أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من لم يحضره البكاء في قراءة القرآن أن يتباكى ويتحازن (١)

فإن هذه الأحوال قد تتكلف مباديها ثم تتحقق آواخرها

وكيف لا يكون التكلف سبباً في أن يصير المتكلف في الآخرة طبعاً وكل من يتعلم القرآن أو لا يحفظه تكلفاً ويقرؤه تكلفاً مع تمام التأمل وإحضار الذهن ثم يصير ذلك ديدناً للسان مطرداً حتى يجري به لسانه في الصلاة وغيرها وهو غافل فيقرأ تمام السورة وتثوب نفسه إليه بعد انتهائه إلى آخرها ويعلم أنه قرأها في حال غفلته وكذلك الكاتب يكتب في الابتداء بجهد شديد ثم تتمرن على الكتابة يده فيصير الكتب له طبعاً فيكتب أوراقاً كثيرة وهو مستغرق القلب بفكر آخر فجميع ما تحتمله النفس والجوارح من الصفات لا سبيل إلى اكتسابه إلا بالتكلف والتصنع أولاً ثم يصير بالعادة طبعاً وهو المراد بقول بعضهم العادة طبيعة خامسة

فكذلك الأحوال الشريفة لا ينبغي أن يقع اليأس منها عند فقدها بل ينبغي أن يتكلف اجتلابها بالسماع وغيره فلقد شوهد في العادات من اشتهى أن يعشق شخصاً ولم يكن يعشقه فلم يزل يردد ذكره على نفسه ويديم النظر إليه ويقرر على نفسه الأوصاف المحبوبة والأخلاق المحمودة فيه حتى عشقه ورسخ ذلك في قلبه رسوخاً خرج عن حداختياره فاشتهى بعد ذلك الخلاص منه فلم يتخلص فكذلك حب الله تعالى والشوق إلى لقائه والخوف من سخطه وغير ذلك من الأحوال الشريفة إذا فقدها الإنسان فينبغي أن يتكلف اجتلابها بمجالسة الموصوفين بها ومشاهدة أحوالهم وتحسين صفاتهم في النفس وبالجلوس معهم في السماع وبالدعاء والتضرع إلى الله تعالى في أن يرزقه تلك الحلة بأن ييسر له أسبابها

ومن أسبابها السماع ومجالسة الصالحين والخائفين والمحسنين والمشتاقين والخاشعين

فمن جالس شخصاً سرت إليه صفاته من حيث لا يدري

ويدل على إمكان تحصيل الحب وغيره من الأحوال بالأسباب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه اللهم ارزقني حبك وحب من أحبك وحب من يقربني إلى حبك (٢)

فقد فزع صلى الله عليه وسلم إلى الدعاء في طلب الحب

فهذا بيان انقسام الوجد إلى مكاشفات وإلى أحوال وانقسامه إلى ما يمكن الإفصاح عنه وإلى ما لا يمكن وانقسامه إلى المتكلف وإلى المطبوع

فإن قلت فما بال هؤلاء لا يظهر وجدهم عند سماع القرآن وهو كلام الله ويظهر عند الغناء وهو كلام الشعراء فلو كان ذلك حقاً من لطف الله تعالى ولم يكن باطلاً من غرور الشيطان لكان القرآن أولى به من الغناء فنقول الوجد الحق هو ما ينشأ من فرط حب الله تعالى وصدق إرادته والشوق إلى لقائه وذلك يهيج بسماع القرآن أيضاً

وإنما الذي لا يهيج بسماع القرآن حب الخلق وعشق المخلوق

ويدل على ذلك قوله تعالى {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} وقوله تعالى {مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} وكل ما يوجد عقيب السماع في النفس فهو وجد

فالطمأنينة والاقشعرار والخشية ولين القلب كل ذلك وجد

وقد قال الله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قلوبهم} وقال تعالى {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله} فالوجل والخشوع وجد من قبيل الأحوال وإن لم يكن من قبيل المكاشفات

ولكن قد يصير سبباً للمكاشفات والتنبيهات ولهذا قال صلى الله عليه وسلم زينوا القرآن بأصواتكم (٣)


(١) حديث البكاء عند قراءة القرآن فإن لم تبكوا فتباكوا تقدم في تلاوة القرآن في الباب الثاني
(٢) حديث اللهم ارزقني حبك وحب من أحبك الحديث تقدم في الدعوات
(٣) حديث زينوا القرآن بأصواتكم تقدم في تلاوة القرآن

<<  <  ج: ص:  >  >>