للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما قوة العلم فحسنها وصلاحها في أن تصير بحيث يسهل بها درك الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال وبين الحق والباطل في الاعتقادات وبين الجميل والقبيح في الأفعال فإذا صلحت هذه القوة حصل منها ثمرة الحكمة والحكمة رأس الأخلاق الحسنة وهي التي قال الله فيها ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا

وأما قوة الغضب فحسنها في أن يصير انقباضها وانبساطها على حد ما تقتضيه الحكمة وكذلك الشهوة حسنها وصلاحها في أن تكون تحت إشارة الحكمة أعني إشارة العقل والشرع

وأما قوة العدل فهو ضبط الشهوة والغضب تحت إشارة العقل والشرع

فالعقل مثاله مثال الناصح المشير

وقوة العدل هي القدرة ومثالها مثال المنفذ الممضي لإشارة العقل

والغضب هو الذي تنفد فيه الإشارة ومثاله مثال كلب الصيد فإنه يحتاج إلى أن يؤدب حتى يكون استرساله وتوقفه بحسب الإشارة لا بحسب هيجان شهوة النفس والشهوة مثالها مثال الفرس الذي يركب في طلب الصيد فإنه تارة يكون مروضاً مؤدباً وتارة يكون جموحاً فمن استوت فيه هذه الخصال واعتدلت فهو حسن الخلق مطلقاً ومن اعتدل فيه بعضها دون البعض فهو حسن الخلق بالإضافة إلى ذلك المعنى خاصة كالذي يحسن بعض أجزاء وجهه دون بعض وحسن القوة الغضبية واعتدالها يعبر عنه بالشجاعة وحسن قوة الشهوة واعتدالها يعبر عنه بالعفة

فإن مالت قوة الغضب عن الاعتدال إلى طرف الزيادة تسمى تهوراً وإن مالت إلى الضعف والنقضان تسمى جبناً وخوراً

وإن مالت قوة الشهوة إلى طرف الزيادة تسمى شرهاً وإن مالت إلى النقصان تسمى جموداً

والمحمود هو الوسط وهو الفضيلة والطرفان رذيلتان مذمومتان والعدل إذا فات فليس له طرفا زيادة ونقصان بل له ضد واحد ومقابل وهو الجور

وأما الحكمة فيسمى إفراطها عند الاستعمال في الأغراض الفاسدة خبثاً وجربزة ويسمى تفريطها بلهاً والوسط هو الذي يختص باسم الحكمة

فإذن أمهات الْأَخْلَاقِ وَأُصُولُهَا أَرْبَعَةٌ الْحِكْمَةُ وَالشَّجَاعَةُ وَالْعِفَّةُ وَالْعَدْلُ وَنَعْنِي بِالْحِكْمَةِ حَالَةً لِلنَّفْسِ بِهَا يُدْرَكُ الصَّوَابُ من الخطأ في جميع الأفعال الِاخْتِيَارِيَّةِ

وَنَعْنِي بِالْعَدْلِ حَالَةً لِلنَّفْسِ وَقُوَّةً بِهَا تسوس الغضب والشهوة وتحملهما على مقتضى الحكمة وتضبطهما فِي الِاسْتِرْسَالِ وَالِانْقِبَاضِ عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَاهَا وَنَعْنِي بِالشَّجَاعَةِ كَوْنَ قُوَّةِ الْغَضَبِ مُنْقَادَةً لِلْعَقْلِ فِي إِقْدَامِهَا وَإِحْجَامِهَا وَنَعْنِي بِالْعِفَّةِ تَأَدُّبَ قُوَّةِ الشَّهْوَةِ بِتَأْدِيبِ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ

فَمِنِ اعْتِدَالِ هَذِهِ الْأُصُولِ الأربعة تصدر الأخلاق الجميلة كلها

إذ من اعتدال قوة العقل يحصل حسن التدبير وجودة الذهن وثقابة الرأي وإصابة الظن والتفطن لدقائق الأعمال وخفايا آفات النفوس ومن إفراطها تصدر الجربزة والمكر والخداع والدهاء ومن تفريطها يصدر البله والغمارة والحمق والجنون وأعني بالغمارة قلة التجربة في الأمور مع سلامة التخيل فقد يكون الإنسان غمراً في شيء دون شيء والفرق بين الحمق الجنون أن الأحمق مقصوده صحيح ولكن سلوكه الطريق فاسد فلا تكون له روية صحيحة في سلوك الطريق الموصل إلى الغرض وأما المجنون فإنه يحتار ما لا ينبغي أن يختار فيكون أصل اختياره وإيثاره فاسداً

وأما خلق الشجاعة فيصدر منه الكرم والنجدة والشهامة وكسر النفس والاحتمال والحلم والثبات وكظم الغيظ والوقار والتودد وأمثالها وهي أخلاق محمودة

وأما إفراطها وهو التهور فيصدر منه الصلف والبذخ

<<  <  ج: ص:  >  >>