والاستشاطة والتكبر والعجب وأما تفريطها فيصدر منه المهانة والذلة والجزع والخساسة وصغر النفس والانقباض عن تناول الحق الواجب
وأما خلق العفة فيصدر منه السخاء والحياء والصبر والمسامحة والقناعة والورع واللطافة والمساعدة والظرف وقلة الطمع وأما ميلها إلى الإفراط أو التفريط فيحصل منه الحرص والشره والوقاحة والخبث والتبذير والتقتير والرياء والهتكة والمجانة والعبث والملق والحسد والشماتة والتذلل للأغنياء واستحقار الفقراء وغير ذلك
فأمهات محاسن الأخلاق هذه الفضائل الأربعة وهي الحكمة والشجاعة والعفة والعدل والباقي فروعها
ولم يبلغ كمال الاعتدال في هذه الأربع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس بعده متفاوتون في القرب والبعد منه فكل من قرب منه في هذه الأخلاق فهو قريب من الله تعالى بقدر قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من جمع كمال هذه الأخلاق استحق أن يكون بين الخلق ملكاً مطاعاً يرجع الخلق كلهم إليه ويقتدون به في جميع الأفعال ومن انفك عن هذه الأخلاق كلها واتصف بأضدادها استحق أن يخرج من بين البلاد والعباد فإنه قد قرب من الشيطان اللعين المبعد فينبغي أن يبعد كما أن الأول قريب من الملك المقرب فينبغي أن يقتدى به ويتقرب إليه فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يبعث إلا ليتمم مكارم الأخلاق كما قال (١)
وَقَدْ أَشَارَ الْقُرْآنُ إِلَى هَذِهِ الْأَخْلَاقِ فِي أَوْصَافِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ تَعَالَى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصادقون فالإيمان بالله وبرسوله من غير ارتياب هو قوة اليقين وهو ثَمَرَةُ الْعَقْلِ وَمُنْتَهَى الْحِكْمَةِ وَالْمُجَاهَدَةُ بِالْمَالِ هُوَ السَّخَاءُ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَى ضَبْطِ قُوَّةِ الشَّهْوَةِ
وَالْمُجَاهَدَةُ بِالنَّفْسِ هِيَ الشَّجَاعَةُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى اسْتِعْمَالِ قُوَّةِ الْغَضَبِ عَلَى شَرْطِ الْعَقْلِ وَحَدِّ الِاعْتِدَالِ فَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّحَابَةَ فَقَالَ أشداء على الكفار رحماء بينهم إِشَارَةً إِلَى أَنَّ لِلشِّدَّةِ مَوْضِعًا وَلِلرَّحْمَةِ مَوْضِعًا فَلَيْسَ الْكَمَالُ فِي الشِّدَّةِ بِكُلِّ حَالٍ وَلَا في الرحمة بكل حال فهذا بيان معنى الخلق وحسنه وقبحه وبيان أركانه وثمراته وفروعه
بَيَانُ قَبُولِ الْأَخْلَاقِ لِلتَّغْيِيرِ بِطَرِيقِ الرِّيَاضَةِ
اعْلَمْ أن بعض من غلبت البطالة عليه اسْتَثْقَلَ الْمُجَاهَدَةَ وَالرِّيَاضَةَ وَالِاشْتِغَالَ بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ فَلَمْ تَسْمَحْ نَفْسُهُ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِقُصُورِهِ وَنَقْصِهِ وَخُبْثِ دُخْلَتِهِ فَزَعَمَ أَنَّ الْأَخْلَاقَ لَا يُتَصَوَّرُ تَغْيِيرُهَا فَإِنَّ الطِّبَاعَ لَا تَتَغَيَّرُ
واستدل فيه بأمرين
أحدهما أن الخلق هو صورة الباطن كما أن الخلق هو صورة الظاهر فالخلقة الظاهرة لا يقدر على تغييرها فالقصير لا يقدر أن يجعل نفسه طويلاً ولا الطويل يقدر أن يجعل نفسه قصيراً ولا القبيح يقدر على تحسين صورته فكذلك القبح الباطن يجري هذا المجرى
والثاني أنهم قالوا حسن الخلق يقمع الشهوة والغضب وقد جربنا ذلك بطول المجاهدة وعرفنا أن ذلك من مقتضى المزاج والطبع فإنه قط لا ينقطع عن الآدمي فاشتغاله به تضييع زمان بغير فائدة فإن المطلوب هو قطع التفات القلب إلى الحظوظ العاجلة وذلك محال وجوده
فَنَقُولُ لَوْ كَانَتِ الْأَخْلَاقُ لَا تَقْبَلُ التَّغْيِيرَ لَبَطَلَتِ الْوَصَايَا وَالْمَوَاعِظُ وَالتَّأْدِيبَاتُ وَلَمَا قَالَ رَسُولُ الله
(١) حديث بعثت لأتمم مكارم الأخلاق تقدم في آداب الصحبة