صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسِّنُوا أَخْلَاقَكُمْ (١) وَكَيْفَ يُنْكَرُ هَذَا فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ وَتَغْيِيرُ خُلُقِ الْبَهِيمَةِ مُمْكِنٌ إِذْ يُنْقَلُ الْبَازِي مِنَ الِاسْتِيحَاشِ إلى الأنس والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية وَالْفَرَسُ مِنَ الْجِمَاحِ إِلَى السَّلَاسَةِ وَالِانْقِيَادِ وَكُلُّ ذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِلْأَخْلَاقِ وَالْقَوْلُ الْكَاشِفُ لِلْغِطَاءِ عَنْ ذَلِكَ أَنْ نَقُولَ الْمَوْجُودَاتُ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى مَا لَا مَدْخَلَ لِلْآدَمِيِّ وَاخْتِيَارِهِ فِي أَصْلِهِ وَتَفْصِيلِهِ كَالسَّمَاءِ وَالْكَوَاكِبِ بَلْ أَعْضَاءُ الْبَدَنِ دَاخِلًا وَخَارِجًا وَسَائِرُ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانَاتِ وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَا هُوَ حَاصِلٌ كَامِلٌ وَقَعَ الْفَرَاغُ مِنْ وُجُودِهِ وَكَمَالِهِ وَإِلَى مَا وُجِدَ وُجُودًا نَاقِصًا وَجُعِلَ فِيهِ قُوَّةٌ لِقَبُولِ الْكَمَالِ بَعْدَ أَنْ وُجِدَ شَرْطُهُ وَشَرْطُهُ قَدْ يَرْتَبِطُ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ فَإِنَّ النَّوَاةَ ليست بِتُفَّاحٍ وَلَا نَخْلٍ إِلَّا أَنَّهَا خُلِقَتْ خِلْقَةً يُمْكِنُ أَنْ تَصِيرَ نَخْلَةً إِذَا انْضَافَ التَّرْبِيَةُ إِلَيْهَا وَلَا تَصِيرُ تُفَّاحًا أَصْلًا وَلَا بِالتَّرْبِيَةِ فَإِذَا صَارَتِ النَّوَاةُ مُتَأَثِّرَةً بِالِاخْتِيَارِ حَتَّى تَقْبَلَ بَعْضَ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ فَكَذَلِكَ الْغَضَبُ وَالشَّهْوَةُ لَوْ أَرَدْنَا قَمْعَهُمَا وَقَهْرَهُمَا بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُمَا أَثَرٌ لَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ أَصْلًا وَلَوْ أَرَدْنَا سَلَاسَتَهُمَا وَقَوْدَهُمَا بِالرِّيَاضَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ قَدَرْنَا عَلَيْهِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِذَلِكَ وَصَارَ ذَلِكَ سَبَبَ نَجَاتِنَا وَوُصُولِنَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى نَعَمْ الْجِبِلَّاتُ مُخْتَلِفَةٌ بَعْضُهَا سَرِيعَةُ الْقَبُولِ وَبَعْضُهَا بَطِيئَةُ الْقَبُولِ ولاختلافها سببان
أحدهما قوة الغريزة في أصل الجبلة وامتداد مدة الوجود فإن قوة الشهوة والغضب والتكبر موجودة في الإنسان ولكن أصعبها أمراً وأعصاها على التغيير قوة الشهوة فإنها أقدم وجوداً إذ الصبي في مبدإ الفطرة تخلق له الشهوة ثم بعد سبع سنين ربما يخلق له الغضب وبعد ذلك يخلق له قوة التمييز
والسبب الثاني أن الخلق قد يتأكد بكثرة العمل بمقتضاه والطاعة له وباعتقاد كونه حسناً ومرضياً والناس فيه على أربع مراتب
الأولى وهو الإنسان الغفل الذي لا يميز بين الحق والباطل والجميل والقبيح بل بقي كما فطر عليه خالياً عن جميع الاعتقادات ولم تستتم شهوته أيضاً باتباع اللذات فهذا سريع القبول للعلاج جداً فلا يحتاج إلا إلى معلم ومرشد وإلى باعث من نفسه يحمله على المجاهدة فيحسن خلقه في أقرب زمان
والثانية أن يكون قد عرف قبح القبيح ولكنه لم يتعود العمل الصالح بل زين له سوء عمله فتعاطاه انقياداً لشهواته وإعراضاً عن صواب رأيه لاستيلاء الشهوة عليه ولكن علم تقصيره في عمله فأمره أصعب من الأول إذ قد تضاعفت الوظيفة عليه إذ عليه قلع ما رسخ في نفسه أولاً من كثرة الاعتياد للفساد والآخر أن يغرس في نفسه صفة الاعتياد للصلاح ولكنه بالجملة محل قابل للرياضة إن انتهض لها بجد وتشمير وحزم
والثالثة أن يعتقد في الأخلاق القبيحة أنها الواجبة المستحسنة وأنها حق وجميل وتربى عليها فهذا يكاد تمتنع معالجته ولا يرجى صلاحه إلا على الندور وذلك لتضاعف أسباب الضلال
والرابعة أن يكون مع نشئه على الرأي الفاسد وتربيته على العمل به يرى الفضيلة في كثرة الشر واستهلاك النفوس ويباهي به ويظن أن ذلك يرفع قدره وهذا هو أصعب المراتب وفي مثله قيل ومن العناء رياضة الهرم ومن التعذيب تهذيب الذيب
والأول من هؤلاء جاهل فقط
والثاني جاهل وضال
والثالث جاهل وضال وفاسق
والرابع جاهل وضال وفاسق وشرير
وأما الخيال الآخر الذي استدلوا به وهو قولهم إن الآدمي ما دام حياً فلا تنقطع عنه الشهوة والغضب وحب الدنيا وسائر هذه الأخلاق فهذا غلط وقع لطائفة ظنوا أن الْمَقْصُودُ مِنَ الْمُجَاهَدَةِ قَمْعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِالْكُلِّيَّةِ وَمَحْوَهَا وَهَيْهَاتَ فَإِنَّ الشَّهْوَةَ خُلِقَتْ لِفَائِدَةٍ وَهِيَ ضَرُورِيَّةٌ فِي الْجِبِلَّةِ فَلَوِ انْقَطَعَتْ شَهْوَةُ الطَّعَامِ لهلك الإنسان ولو انقطعت
(١) حديث حسنوا أخلاقكم أخرجه أبو بكر ابن لال في مكارم الأخلاق من حديث معاذ يا معاذ حسن خلقك للناس منقطع ورجاله ثقات