شيء أحب إليه من لقاء الله تعالى عز وجل فلا يستعمل جميع ماله إلا على الوجه الذي يوصله إليه وغضبه وشهوته من المسخرات له فلا يستعملهما إلا على الوجه الذي يوصله إلى الله تعالى وذلك بأن يكون موزوناً بميزان الشرع والعقل ثم يكون بعد ذلك فرحاً به مستلذاً له وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَبْعِدَ مَصِيرَ الصَّلَاةِ إِلَى حَدٍّ تَصِيرُ هِيَ قُرَّةَ الْعَيْنِ وَمَصِيرَ الْعِبَادَاتِ لَذِيذَةً فَإِنَّ الْعَادَةَ تَقْتَضِي فِي النَّفْسِ عَجَائِبَ أغرب من ذلك فإنا قد نرى الملوك والمنعمين في أحزان دائمة ونرى المقامر قَدْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَرَحِ وَاللَّذَّةِ بِقِمَارِهِ وَمَا هُوَ فِيهِ مَا يَسْتَثْقِلُ مَعَهُ فَرَحَ النَّاسِ بِغَيْرِ قِمَارٍ مَعَ أَنَّ الْقِمَارَ رُبَّمَا سَلَبَهُ مَالَهُ وَخَرَّبَ بَيْتَهُ وَتَرَكَهُ مُفْلِسًا وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ يُحِبُّهُ وَيَلْتَذُّ بِهِ وَذَلِكَ لِطُولِ إِلْفِهِ لَهُ وَصَرْفِ نَفْسِهِ إِلَيْهِ مُدَّةً وَكَذَلِكَ اللَّاعِبُ بِالْحَمَامِ قَدْ يَقِفُ طُولَ النَّهَارِ فِي حَرِّ الشَّمْسِ قَائِمًا عَلَى رِجْلَيْهِ وَهُوَ لَا يحس بألمها لفرحه بالطيور وحركاتها وطيرانها وتحليقها في جو السماء بل نرى الفاجر العيار يفتخر بما يلقاه من الضرب والقطع والصبر على السياط وعلى أن يتقدم به للصلب وهو مع ذلك متبجح بنفسه وبقوته بالصبر على ذلك حتى يرى ذلك فخراً لنفسه ويقطع الواحد منهم إرباً إربا على أن يقر بما تعاطاه أو تعاطاه غيره فيصر على الإنكار ولا يبالي بالعقوبات فرحاً بما يعتقده كمالاً وشجاعة ورجولية فقد صارت أحواله مع ما فيها من النكال قرة عينه وسبب افتخاره بل لا حالة أخس وأقبح من حال المخنث في تشبهه بالإناث في نتف الشعر ووشم الوجه ومخالطة النساء فترى المخنث في فرح بحاله وافتخار بكماله في تخنثه يتباهى به مع المخنثين حتى يجري بين الحجامين والكناسين التفاخر والمباهاة كما يجري بين الملوك والعلماء فَكُلُّ ذَلِكَ نَتِيجَةُ الْعَادَةِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ عَلَى الدَّوَامِ مُدَّةً مَدِيدَةً وَمُشَاهِدَةِ ذَلِكَ في المخالطين والمعارف فإذا كَانَتِ النَّفْسُ بِالْعَادَةِ تَسْتَلِذُّ الْبَاطِلَ وَتَمِيلُ إِلَيْهِ وإلى المقابح فَكَيْفَ لَا تَسْتَلِذُّ الْحَقَّ لَوْ رُدَّتْ إِلَيْهِ مُدَّةً وَالْتَزَمَتِ الْمُوَاظَبَةَ عَلَيْهِ بَلْ مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الشَّنِيعَةِ خَارِجٌ عَنِ الطَّبْعِ يُضَاهِي الْمَيْلَ إِلَى أَكْلِ الطِّينِ فَقَدْ يَغْلِبُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ ذَلِكَ بِالْعَادَةِ فَأَمَّا مَيْلُهُ إِلَى الْحِكْمَةِ وَحُبِّ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ فَهُوَ كَالْمَيْلِ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَإِنَّهُ مُقْتَضَى طَبْعِ الْقَلْبِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ رَبَّانِيٌّ وَمَيْلُهُ إِلَى مُقْتَضَيَاتِ الشَّهْوَةِ غَرِيبٌ مِنْ ذَاتِهِ وَعَارِضٌ عَلَى طَبْعِهِ وَإِنَّمَا غِذَاءُ الْقَلْبِ الْحِكْمَةُ وَالْمَعْرِفَةُ وَحُبُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَكِنِ انْصَرَفَ عَنْ مُقْتَضَى طَبْعِهِ لِمَرَضٍ قَدْ حَلَّ بِهِ كَمَا قَدْ يَحِلُّ الْمَرَضُ بِالْمَعِدَةِ فَلَا تَشْتَهِي الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَهُمَا سَبَبَانِ لِحَيَاتِهَا فَكُلُّ قَلْبٍ مَالَ إِلَى حُبِّ شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَنْفَكُّ عَنْ مَرَضٍ بِقَدْرِ مَيْلِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ أَحَبَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ لِكَوْنِهِ مُعِينًا لَهُ عَلَى حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى دِينِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْمَرَضِ
فَإِذَنْ قَدْ عَرَفْتَ بِهَذَا قَطْعًا أَنَّ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ الْجَمِيلَةَ يُمْكِنُ اكْتِسَابُهَا بِالرِّيَاضَةِ وَهِيَ تَكَلُّفُ الْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ عنها ابتداء لتصير طبعاً انتهاء وَهَذَا مِنْ عَجِيبِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ أعني النفس والبدن فإن كل صِفَةً تَظْهَرُ فِي الْقَلْبِ يَفِيضُ أَثَرُهَا عَلَى الْجَوَارِحِ حَتَّى لَا تَتَحَرَّكَ إِلَّا عَلَى وَفْقِهَا لَا مَحَالَةَ وَكُلُّ فِعْلٍ يَجْرِي عَلَى الْجَوَارِحِ فَإِنَّهُ قَدْ يَرْتَفِعُ مِنْهُ أَثَرٌ إِلَى الْقَلْبِ والأمر فيه دور ويعرف ذلك بمثال وهو أن من أراد أن يصير الحذق في الكتابة له صفة نفسية حتى يصير كاتباً بالطبع فلا طريق له إلا أن يتعاطى بجارحة اليد ما يتعاطاه الكاتب الحاذق ويواظب عليه مدة طويلة يحاكي الخط الحسن فإن فعل الكاتب هو الخط الحسن فيتشبه بالكاتب تكلفاً ثم لا يزال يواظب عليه حتى يصير صفة راسخة في نفسه فيصدر منه في الآخر الخط الحسن طبعاً كما كان يصدر منه في الابتداء تكلفاً فكان الخط الحسن هو الذي جعل خطه حسناً ولكن الأول بتكلف إلا أنه ارتفع منه أثر إلى القلب ثم انخفض من القلب إلى الجارحة فصار يكتب الخط الحسن بالطبع