للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكذلك من أراد أن يصير فقيه النفس فلا طريق له إلا أن يتعاطى أفعال الفقهاء وهو التكرار للفقه حتى تنعطف منه على قلبه صفة الفقه فيصير فقيه النفس وكذلك من أراد أن يصير سخياً عفيف النفس حليماً متواضعاً فيلزمه أن يتعاطى أفعال هؤلاء تكلفاً حتى يصير ذلك طبعاً له فلا علاج له إلا ذلك وكما أن طالب فقه النفس لا ييأس من نيل هذه الرتبة بتعطيل ليلة ولا ينالها بتكرار ليلة فكذلك طالب تزكية النفس وتكميلها وتحليتها بالأعمال الحسنة لا ينالها بعبادة يوم ولا يحرم عنها بعصيان يوم وهو معنى قولنا أن الكبيرة الواحدة لا توجب الشقاء المؤبد ولكن العطلة في يوم واحد تدعو إلى مثلها ثم تتداعى قليلاً قليلاً حتى تأنس النفس بالكسل وتهجر التحصيل رأساً فيفوتها فضيلة الفقه وكذلك صغائر المعاصي يجر بعضها إلى بعض حتى يفوت أصل السعادة بهدم أصل الإيمان عند الخاتمة وكما أن تكرار ليلة لا يحس تأثيره في فقه النفس بل يظهر فقه النفس شيئاً فشيئاً على التدريج مثل نمو البدن وارتفاع القامة فكذلك الطاعة الواحدة لا يحس تأثيرها في تزكية النفس وتطهيرها في الحال ولكن لا ينبغي أن يستهان بقليل الطاعة فإن الجملة الكثيرة منها مؤثرة وإنما اجتمعت الجملة من الآحاد فلكل واحد منها تأثير فما من طاعة إلا ولها أثر وإن خفي فله ثواب لا محالة فإن الثواب بإزاء الأثر وكذلك المعصية وكم من فقيه يستهين بتعطيل يوم وليلة وهكذا على التوالي يسوف نفسه يوماً فيوماً إلى أن يخرج طبعه عن قبول الفقه فكذا من يستهين صغائر المعاصي ويسوف نفسه بالتوبة على التوالي إلى أن يختطفه الموت بغتة أو تتراكم ظلمة الذنوب على قلبه وتتعذر عليه التوبة إذ القليل يدعو إلى الكثير فيصير القلب مقيداً بسلاسل شهوات لا يمكن تخليصه من مخالبها وهو المعنى بانسداد باب التوبة وهو المراد بقوله تعالى وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً الآية ولذلك قال رضي الله تعالى عنه إن الإيمان ليبدو في القلب نكتة بيضاء كلما ازداد الإيمان ازداد ذلك البياض فإذا استكمل العبد الإيمان أبيض القلب كله وإن النفاق ليبدو في القلب نكتة سوداء كلما ازداد النفاق ازداد ذلك السواد فإذا استكمل النفاق أسود القلب كله فإذا عرفت أَنَّ الْأَخْلَاقَ الْحَسَنَةَ تَارَةً تَكُونُ بِالطَّبْعِ وَالْفِطْرَةِ وَتَارَةً تَكُونُ بِاعْتِيَادِ الْأَفْعَالِ الْجَمِيلَةِ وَتَارَةً بِمُشَاهَدَةِ أَرْبَابِ الْفِعَالِ الْجَمِيلَةِ وَمُصَاحَبَتِهِمْ وَهُمْ قُرَنَاءُ الْخَيْرِ وإخوان الصَّلَاحِ إِذِ الطَّبْعُ يَسْرِقُ مِنَ الطَّبْعِ الشَّرَّ وَالْخَيْرَ جَمِيعًا فَمَنْ تَظَاهَرَتْ فِي حَقِّهِ الْجِهَاتُ الثلاثة حَتَّى صَارَ ذَا فَضِيلَةٍ طَبْعًا وَاعْتِيَادًا وَتَعَلُّمًا فهو في غَايَةُ الْفَضِيلَةِ وَمَنْ كَانَ رَذْلًا بِالطَّبْعِ وَاتَّفَقَ لَهُ قُرَنَاءُ السُّوءِ فَتَعَلَّمَ مِنْهُمْ وَتَيَسَّرَتْ لَهُ أَسْبَابُ الشَّرِّ حَتَّى اعْتَادَهَا فَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ من اختلفت فيه من هَذِهِ الْجِهَاتُ وَلِكُلِّ دَرَجَةٍ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ بحسب ما تقتضيه صورته وَحَالَتُهُ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون

بَيَانُ تَفْصِيلِ الطَّرِيقِ إِلَى تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ

قَدْ عَرَفْتَ مِنْ قَبْلُ أَنَّ الِاعْتِدَالَ فِي الْأَخْلَاقِ هُوَ صِحَّةُ النَّفْسِ وَالْمِيلُ عَنِ الِاعْتِدَالِ سَقَمٌ وَمَرَضٌ فِيهَا كَمَا أَنَّ الِاعْتِدَالَ فِي مِزَاجِ الْبَدَنِ هُوَ صِحَّةٌ لَهُ وَالْمَيْلُ عَنِ الِاعْتِدَالِ مَرَضٌ فِيهِ فَلْنَتَّخِذِ الْبَدَنَ مِثَالًا فَنَقُولُ

مِثَالُ النَّفْسِ فِي عِلَاجِهَا بِمَحْوِ الرَّذَائِلِ وَالْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ عَنْهَا وَجَلْبِ الْفَضَائِلِ وَالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ إِلَيْهَا مِثَالُ الْبَدَنِ فِي عِلَاجِهِ بِمَحْوِ الْعِلَلِ عَنْهُ وَكَسْبِ الصِّحَّةِ لَهُ وَجَلْبِهَا إِلَيْهِ وَكَمَا أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى أَصْلِ الْمِزَاجِ الِاعْتِدَالُ وَإِنَّمَا تَعْتَرِي الْمَعِدَةَ الْمَضَرَّةُ بِعَوَارِضِ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَهْوِيَةِ وَالْأَحْوَالِ فَكَذَلِكَ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ مُعْتَدِلًا صَحِيحَ الْفِطْرَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>