وَإِنَّمَا أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ أَيْ بِالِاعْتِيَادِ وَالتَّعْلِيمِ تُكْتَسَبُ الرَّذَائِلُ وَكَمَا أَنَّ الْبَدَنَ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يُخْلَقُ كَامِلًا وَإِنَّمَا يكمل ويقوى بالنشو وَالتَّرْبِيَةِ بِالْغِذَاءِ فَكَذَلِكَ النَّفْسُ تُخْلَقُ نَاقِصَةً قَابِلَةً لِلْكَمَالِ وَإِنَّمَا تُكْمَلُ بِالتَّرْبِيَةِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَالتَّغْذِيَةِ بِالْعِلْمِ وَكَمَا أَنَّ الْبَدَنَ إِنْ كَانَ صَحِيحًا فَشَأْنُ الطَّبِيبِ تَمْهِيدُ الْقَانُونِ الْحَافِظِ لِلصِّحَّةِ وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَشَأْنُهُ جَلْبُ الصِّحَّةِ إِلَيْهِ فَكَذَلِكَ النَّفْسُ مِنْكَ إِنْ كَانَتْ زَكِيَّةً طَاهِرَةً مُهَذَّبَةً فينبغي أن تسعى لحفظها وجلب مزيد قوة إِلَيْهَا وَاكْتِسَابِ زِيَادَةِ صَفَائِهَا وَإِنْ كَانَتْ عَدِيمَةَ الْكَمَالِ وَالصَّفَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَسْعَى لِجَلْبِ ذَلِكَ إليها وكما أن العلة المغيرة لاعتدال البدن الموجبة المرض لَا تُعَالَجُ إِلَّا بِضِدِّهَا فَإِنْ كَانَتْ مِنْ حرارة فبالبرودة وإن كانت من برودة فبالحرارة فَكَذَلِكَ الرَّذِيلَةُ الَّتِي هِيَ مَرَضُ الْقَلْبِ عِلَاجُهَا بِضِدِّهَا فَيُعَالَجُ مَرَضُ الْجَهْلِ بِالتَّعَلُّمِ وَمَرَضُ الْبُخْلِ بِالتَّسَخِّي وَمَرَضُ الْكِبْرِ بِالتَّوَاضُعِ وَمَرَضُ الشَّرَهِ بِالْكَفِّ عَنِ الْمُشْتَهَى تَكَلُّفًا وَكَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ من الاحتمال لمرارة الدواء وشدة الصبر عن الْمُشْتَهَيَاتِ لِعِلَاجِ الْأَبْدَانِ الْمَرِيضَةِ فَكَذَلِكَ لَا بُدَّ مِنِ احْتِمَالِ مَرَارَةِ الْمُجَاهَدَةِ وَالصَّبْرِ لِمُدَاوَاةِ مَرَضِ الْقَلْبِ بَلْ أَوْلَى فَإِنَّ مَرَضَ الْبَدَنِ يَخْلُصُ مِنْهُ بِالْمَوْتِ وَمَرَضُ الْقَلْبِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى مرض يدوم بعد الموت أبد الآباد وكما أن كل مبرد لا يصلح لعلة سببها الحرارة إلا إذا كان على حد مخصوص ويختلف ذلك بالشدة والضعف والدوام وعدمه وبالكثرة والقلة ولا بد له من معيار يعرف به مقدار النافع منه فإنه إن لم يحفظ معياره زاد الفساد فكذلك النقائض التي تعالج بها الأخلاق لا بد لها من معيار وكما أن معيار الدواء مأخوذ من معيار العلة حتى إن الطبيب لا يعالج ما لم يعرف أن العلة من حرارة أو برودة فإن كانت من حرارة فيعرف درجتها أهي ضعيفة أم قوية فإذا عرف ذلك التفت إلى أحوال البدن وأحوال الزمان وصناعة المريض وسنه وسائر أحواله ثم يعالج بحسبها
فكذلك الشيخ المتبوع الذي يطبب نفوس المريدين ويعالج قلوب المسترشدين ينبغي أن لا يهجم عليهم بالرياضة والتكاليف في فن مخصوص وفي طريق مخصوص ما لم يعرف أخلاقهم وأمراضهم وكما أن الطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم فكذلك الشيخ لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة أهلكهم وأمات قلوبهم بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد وفي حاله وسنه ومزاجه وما تحتمله بنيته من الرياضة ويبني على ذلك رياضته فإن كان المريد مبتدئاً جاهلاً بحدود الشرع فيعلمه أولاً الطهارة والصلاة وظواهر العبادات وإن كان مشغولاً بمال حرام أو مقارفاً لمعصية فيأمره أولاً بتركها فإذا تزين ظاهره بالعبادات وطهر عن المعاصي الظاهرة جوارحه نظر بقرائن الأحوال إلى باطنه ليتفطن لأخلاقه وأمراض قلبه فإن رأى معه مالاً فاضلاً عن قدر ضرورته أخذه منه وصرفه إلى الخيرات وفرغ قلبه منه حتى لا يلتفت إليه وإن رأى الرعونة والكبر وعزة النفس غالبة عليه فيأمره أن يخرج إلى الأسواق للكدية والسؤال فإن عزة النفس والرياسة لا تنكسر إلا بالذل ولا ذل أعظم من ذل السؤال فيكلفه المواظبة على ذلك مدة حتى ينكسر كبره وعز نفسه فإن الكبر من الأمراض المهلكة وكذلك الرعونة وإن رأى الغالب عليه النظافة في البدن والثياب ورأى قلبه مائلاً إلى ذلك فرحاً به ملتفتاً إليه استخدمه في تعهد بيت الماء وتنظيفه وكنس المواضع القذرة وملازمة المطبخ ومواضع الدخان حتى تتشوش عليه رعونته في النظافة فإن الذين ينظفون ثيابهم ويزينونها ويطلبون المرقعات النظيفة والسجادات الملونة لا فرق بينهم وبين العروس التي تزين نفسها طول النهار فلا فرق بين أن يعبد الإنسان نفسه أو يعبد صنماً فمهما عبد غير الله تعالى فقد حجب عن الله ومن راعى في ثوبه شيئاً سوى كونه حلالاً وطاهراً مراعاة يلتفت إليها قلبه فهو مشغول بنفسه