بعض المباحات طمعت في المحظورات فمن أراد حفظ لسانه عن الغيبة والفضول فحقه أن يلزمه السكوت إلا عن ذكر الله وإلا عن المهمات في الدين حتى تموت منه شهوة الكلام فلا يتكلم إلا بحق فيكون سكوته عبادة وكلامه عبادة
ومهما اعتادت العين رمي البصر إلى كل شيء جميل لم تتحفظ عن النظر إلى ما لا يحل وكذلك سائر الشهوات لأن الذي يشتهى به الحلال هو بعينه الذي يشتهي الحرام فالشهوة واحدة وقد وجب على العبد منعها من الحرام فإن لم يعودها الاقتصاد على قدر الضرورة من الشهوات غلبته فهذه إحدى آفات المباحات ووراءها آفات عظيمة أعظم من هذه وهو أن النفس تفرح بالتنعم في الدنيا وتركن إليها وتطمئن إليها أشراً وبطراً حتى تصير ثملة كالسكران الذي لا يفيق من سكره وذلك الفرح بالدنيا سم قاتل يسري في العروق فيخرج من القلب الخوف والحزن وذكر الموت وأهوال يوم القيامة وهذا هو موت القلب قال الله تعالى {ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها} وقال تعالى {وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} وقال تعالى {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد} الآية وكل ذلك ذم لها فنسأل الله السلامة
فأولو الحزم من أرباب القلوب جربوا قلوبهم في حال الفرح بمؤاتاة الدنيا فوجدوها قاسية نفرة بعيدة التأثر عن ذكر الله واليوم الآخر وجربوها في حالة الحزن فوجدوها لينة رقيقة صافية قابلة لأثر الذكر فعلموا أن النجاة في الحزن الدائم والتباعد من أسباب الفرح والبطر ففطموها عن ملاذها وعودوها الصبر عن شهواتها حلالها وحرامها وعلموا أن حلالها حساب وحرامها عقاب ومتشابهها عتاب وهو نوع عذاب فمن نوقش الحساب في عرصات القيامة فقد عذب فخلصوا أنفسهم من عذابها وتوصلوا إلى الحرية والملك الدائم في الدنيا والآخرة بالخلاص من أسر الشهوات ورقها والأنس بذكر الله عز وجل والاشتغال بطاعته وفعلوا بها ما يفعل بالبازي إذا قصد تأديبه ونقله من التوثب والاستيحاش إلى الانقياد والتأديب فإنه يحبس أولاً في بيت مظلم وتخاط عيناه حتى يحصل به الفطام عن الطيران في جو الهواء وينسى ما قد كان ألفه من طبع الاسترسال ثم يرفق باللحم حتى يأنس بصاحبه ويألفه إلفاً إذا دعاه أجابه ومهما سمع صوته رجع إليه فكذلك النفس لا تألف ربها ولا تأنس بذكره إلا إذا فطمت عن عادتها بالخلوة والعزلة أولاً ليحفظ السمع والبصر عن المألوفات ثم عودت الثناء والذكر والدعاء ثانياً في الخلوة حتى يغلب عليها الأنس بذكر الله عز وجل عوضاً عن الأنس بالدنيا وسائر الشهوات وذلك يثقل على المريد في البداية ثم يتنعم به في النهاية كالصبي يفطم عن الثدي وهو شديد عليه إذا كان لا يصبر عنه ساعة فلذلك يشتد بكاؤه وجزعه عند الفطام ويشتد نفوره عن الطعام الذي يقدم إليه بدلاً عن اللبن ولكنه إذا منع اللبن رأساً يوماً فيوماً وعظم تعبه في الصبر عليه وغلبه الجوع تناول الطعام تكلفاً ثم يصير له طبعا فلورد بعد ذلك إلى الثدي لم يرجع إليه فيهجر الثدي ويعاف اللبن ويألف الطعام وكذلك الدابة في الابتداء تنفر عن السرج واللجام والركوب فتحمل على ذلك قهراً وتمنع عن السرج الذي ألفته بالسلاسل والقيود أولاً ثم تأنس به بحيث تترك في موضعها فتقف فيه من غير قيد فكذلك تؤدب النفس كما تؤدب الطير والدواب وتأديبها بأن تمنع من النظر والأنس والفرح بنعيم الدنيا بل بكل ما يزايلها بالموت إذ قيل له أحبب ما أحببت فإنك مفارقه فإذا علم أنه من أحب شيئاً يلزمه فراقه ويشقى لا محالة لفراقه شغل قلبه بحب ما لا يفارقه وهو ذكر الله تعالى فإن ذلك يصحبه في القبر ولا يفارقه وكل ذلك يتم بالصبر أولاً أياماً قلائل فإن العمر قليل بالإضافة إلى مدة حياة الآخرة وما من عاقل إلا وهو راض باحتمال المشقة في سفر وتعلم صناعة وغيرها شهراً ليتنعم به سنة أو دهراً وكل