بعد ذلك اسفيذباجا فقال له بشر هل تعلم شيئاً اقل من السكنجبين يقوم مقامه قال لا قال أنا أعرف قال ما هو قال الهندبا بالخل ثم قال أتعرف شيئاً اقل من السفرجل يقوم مقامه قال لا قال أنا أعرف قال ما هو قال الخرنوب الشامي قال فتعرف شيئاً أقل من الاسفيذباج يقوم مقامه قال لا قال أنا أعرف ماء الحمص بسمن البقر في معناه فقال له عبد الرحمن أنت أعلم مني بالطب فلم تسألني
فقد عرفت بهذا أن هؤلاء امتنعوا من الشهوات ومن الشبع من الأقوات وكان امتناعهم للفوائد التي ذكرناها وفي بعض الأوقات لأنهم كانوا لا يصفو لهم الحلال فلم يرخصوا لأنفسهم إلا في قدر الضرورة والشهوات ليست من الضرورات حتى قال أبو سليمان الملح شهوة لأنه زيادة على الخبز وما وراء الخبز شهوة وهذا هو النهاية فمن لم يقدر على ذلك فينبغي أن لا يغفل عن نفسه ولا ينهمك في الشهوات فكفى بالمرء إسرافاً أن يأكل كل ما يشتهيه ويفعل كل ما يهواه فينبغي أن لا يواظب على أكل اللحم وقال علي كرم الله وجهه من ترك اللحم أربعين يوماً ساء خلقه ومن داوم عليه أربعين يوماً قسا قلبه وقيل أن للمداومة على اللحم ضراوة كضراوة الخمر ومهما كان جائعاً وتاقت نفسه إلى الجماع فلا ينبغي أن يأكل ويجامع فيعطي نفسه شهوتين فتقوى عليه وربما طلبت النفس الأكل لينشط في الجماع ويستحب أن لا ينام على الشبع فيجمع بين غفلتين فيعاد الفتور ويقسو قلبه لذلك ولكن ليصل أو ليجلس فيذكر الله تعالى فإنه أقرب إلى الشكر وفي الحديث أذيبوا طعامكم بالذكر والصلاة ولا تناموا عليه فتقسو قلوبكم (١) وأقل ذلك أن يصلي أربع ركعات أو يسبح مائة تسبيحة أو يقرأ جزءاً من القرآن عقيب أكله فقد كان سفيان الثوري إذا شبع ليلة أحياها وإذا شبع في يوم واصله بالصلاة والذكر وكان يقول أشبع الزنجي وكده ومرة يقول أشبع الحمار وكده ومهما اشتهى شيئاً من الطعام وطيبات الفواكه فينبغي أن يترك الخبز ويأكلها بدلاً منه لتكون قوتاً ولا تكون تفكها لئلا يجمع للنفس بين عادة وشهوة نظر سهل إلى ابن سالم وفي يده خبز وتمر فقال له ابدأ بالتمر فإن قامت كفايتك به وإلا أخذت من الخبز بعده بقدر حاجتك ومهما وجد طعاماً لطيفاً وغليظاً فليقدم اللطيف فإنه لا يشتهي الغليظ بعده ولو قدم الغليظ لأكل اللطيف أيضاً للطافته وكان بعضهم يقول لأصحابه لا تأكلوا الشهوات فإن أكلتموها فلا تطلبوها فإن طلبتموها فلا تحبوها وطلب بعض أنواع الخبز شهوة قال عبد الله ابن عمر رحمة الله عليهما ما تأتينا من العراق فاكهة أحب إلينا من الخبز فرأى ذلك الخبز فاكهة
وعلى الجملة لا سبيل إلى إهمال النفس في الشهوات المباحات وأتباعها بكل حال فبقدر ما يستوفي العبد من شهوته يخشى أن يقال له يوم القيامة {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} وبقدر ما يجاهد نفسه ويترك شهوته يتمتع في الدار الآخر بشهواته قال بعض أهل البصرة نازعتني نفسي خبز أرز وسمكاً فمنعتها فقويت مطالبتها واشتدت مجاهدتي لها عشرين سنة فلما مات قال بعضهم رأيته في المنام فقلت ماذا فعل الله بك قال لا أحسن أن أصف ما تلقاني به ربي من النعم والكرامات وكان أول شيء استقبلني به خبز أرز وسمكاً وقال كل اليوم شهوتك هنيئاً بغير حساب وقد قال تعالى {كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية} وكانوا قد أسلفوا ترك الشهوات ولذلك قال أبو سليمان ترك شهوة من الشهوات أنفع للقلب من صيام سنة وقيامها وفقنا الله لما يرضيه
(١) حديث أذيبوا طعامكم بالصلاة والذكر ولا تناموا عليه فتقسو قلوبكم أخرجه الطبراني وابن السني في اليوم والليلة من حديث عائشة بسند ضعيف