للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجزء في الفرار من الناس وقال نبينا صلى الله عليه وسلم من كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به (١)

الآثار كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يضع حصاة في فيه يمنع بها نفسه عن الكلام وكان يشير إلى لسانه ويقول هذا الذي أوردني الموارد وقال عبد الله بن مسعود والله الذي لا إله إلا هو ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان وقال طاوس لساني سبع إن أرسلته أكلني وقال وهب بن منبه في حكمة آل داود حق على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه حافظاً للسانه مقبلاً على شأنه وقال الحسن ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه وقال الأوزاعي كتب إلينا عمر بن عبد العزيز رحمه الله أما بعد فإن من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وقال بعضهم الصمت يجمع للرجل فضيلتين السلامة في دينه والفهم عن صاحبه وقال محمد بن واسع لمالك بن دينار يا أبا يحيى حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم وقال يونس بن عبيد ما من الناس أحد يكون منه لسانه على بال إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله وقال الحسن تكلم قوم عند معاوية رحمه الله والأحنف بن قيس ساكت فقال له مالك يا أبا بحر لا تتكلم فقال له أخشى الله إن كذبت وأخشاك إن صدقت وقال أبو بكر بن عياش اجتمع أربعة ملوك ملك الهند وملك الصين وكسرى وقيصر فقال أحدهم أنا أندم على ما قلت ولا أندم على ما لم أقل وقال الآخر إني إذا تكلمت بكلمة ملكتني ولم أملكها وإذا لم أتكلم بها ملكتها ولم تملكني وقال الثالث عجبت للمتكلم إن رجعت عليه كلمته ضرته وإن لم ترجع لم تنفعه وقال الرابع أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت وقيل أقام المنصور بن المعتز لم يتكلم بكلمة بعد العشاء الآخرة أربعين سنة وقيل ما تكلم الربيع بن خيثم بكلام الدنيا عشرين سنة وكان إذا أصبح وضع دواة وقرطاساً وقلماً فكل ما تكلم به كتبه ثم يحاسب نفسه عند المساء

فإن قلت فهذا الفضل الكبير للصمت ما سببه فاعلم أن سببه كثرة آفات اللسان من الخطأ والكذب والغيبة والنميمة والرياء والنفاق والفحش والمراء وتزكية النفس والخوض في الباطل والخصومة والفضول والتحريف والزيادة والنقصان وإيذاء الخلق وهتك العورات

فهذه آفات كثيرة وهي سيانة إلى اللسان لا تثقل عليه ولها حلاوة في القلب وعليها بواعث من الطبع ومن الشيطان والخائض فيها قلما يقدر أن يمسك اللسان فيطلقه بما يحب ويكفه عما لا يحب فإن ذلك من غوامض العلم كما سيأتي تفصيله ففي الخوض خطر وفي الصمت سلامة فلذلك عظمت فضيلته هذا مع ما فيه من جمع الهم ودوام الوقار والفراغ للفكر والذكر والعبادة والسلامة من تبعات القول في الدنيا ومن حسابه في الآخرة فقد قال الله تعالى {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عتيد}

ويدلك على فضل لزوم الصمت أمر وهو أن الكلام أربعة أقسام قسم هو ضرر محض وقسم هو نفع محض وقسم فيه ضرر ومنفعة وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة

أما الذي هو ضرر محض فلا بد من السكوت عنه وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة لا تفي بالضرر

وأما ما لا منفعة فيه ولا ضرر فهو فضول والاشتغال به تضييع زمان وهو عين الخسران فلا يبقى إلا القسم الرابع فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام وبقي ربع وهذا الربع فيه خطر إذ يمتزج بما فيه إثم من دقائق الرياء والتصنع والغيبة وتزكية النفس وفضول الكلام امتزاجا يخفى دركه فيكون الإنسان به مخاطراً ومن عرف دقائق


(١) حديث من كثر كلامه كثر سقطه الحديث أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث ابن عمر بسند ضعيف وقد رواه أبو حاتم بن حبان في روضة العقلاء والبيهقي في الشعب موقوفا على عمر بن الخطاب

<<  <  ج: ص:  >  >>