للنفس قويتان لها
وأما إظهار الفضل فهو من قبل تزكية النفس وهي من مقتضى ما في العبد من طغيان دعوى العلو والكبرياء وهي من صفات الربوبية وأما تنقيض الآخر فهو من مقتضى طبع السبعية فإنه يقتضي أن يمزق غيره ويقصمه ويصدمه ويؤذيه وهاتان صفتان مذمومتان مهلكتان وإنما قوتهما المراء والجدال فالمواظب على المراء والجدال مقو لهذه الصفات المهلكة وهذا مجاوز حد الكراهة بل هو معصية مهما حصل فيه إيذاء الغير
وَلَا تَنْفَكُّ الْمُمَارَاةُ عَنِ الْإِيذَاءِ وَتَهْيِيجِ الْغَضَبِ وَحَمْلِ الْمُعْتَرَضِ عَلَيْهِ عَلَى أَنْ يَعُودَ فَيَنْصُرَ كَلَامَهُ بِمَا يُمْكِنُهُ مِنْ حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ وَيَقْدَحَ فِي قَائِلِهِ بِكُلِّ مَا يُتَصَوَّرُ لَهُ فيثور الشجار بين المتماريين كما يثور الهراش بين الكلبين يقصد كل واحد منهما أن يعض صاحبه بما هو أعظم نكاية وأقوى في إفحامه وإلجامه
وَأَمَّا عِلَاجُهُ فَهُوَ بِأَنْ يَكْسِرَ الْكِبْرَ الْبَاعِثَ له على إظهار فضله والسبعية الباعث له على تنقيص غيره كما سيأتي ذلك في كتاب ذم الكبر والعجب وكتاب ذم الغضب فإن علاج كل علة بإماطة سببها وسبب المراء والجدال ما ذكرناه ثم المواظبة عليه تجعله عادة وطبعا حتى يتمكن من النفس ويعسر الصبر عنه
روي أن أبا حنيفة رحمة الله عليه قال لداود الطائي لم آثرت الإنزواء قال لأجاهد نفسي بترك الجدال فقال احضر المجالس واستمع ما يقال ولا تتكلم قال ففعلت ذلك فما رأيت مجاهدة أشد علي منها وهو كما قال لأن من سمع الخطأ من غيره وهو قادر على كشفه يعسر عليه الصبر عند ذلك جداً ولذلك قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَرَكَ المراء وهو محق بنى الله له بيتاً في أعلى الجنة لشدة ذلك على النفس وأكثر ما يغلب ذلك في المذاهب والعقائد
فإن المراء طبع فإذا ظن أن له عليه ثواباً اشتد عليه حرصه وتعاون الطبع والشرع عليه وذلك خطأ محض بل ينبغي للإنسان أن يكف لسانه عن أهل القبلة وإذا رأى مبتدعاً تلطف في نصحه في خلوة لا بطريق الجدال فإن الجدال يخيل إليه أنها حيلة منه في التلبيس وأن ذلك صنعة يقدر المجادلون من أهل مذهبه على أمثالها لو أرادوا فتستمر البدعة في قلبه بالجدل وتتأكد فإذا عرف أن النصح لا ينفع اشتغل بنفسه وتركه وقال صلى الله عليه وسلم رحم الله من كف لسانه عن أهل القبلة إلا بأحسن ما يقدر عليه (١) وقال هشام بن عروة كان عليه السلام يردد قوله هذا سبع مرات وكل من اعتاد المجادلة مدة وأثنى الناس عليه ووجد لنفسه بسببه عزاً وقبولاً قويت فيه هذه المهلكات ولا يستطيع عنها نزوعاً إذا اجتمع عليه سلطان الغضب والكبر والرياء وحب الجاه والتعزز بالفضل وآحاد هذه الصفات يشق مجاهدتها فكيف بمجموعها الْآفَةُ الْخَامِسَةُ الْخُصُومَةُ
وَهِيَ أَيْضًا مَذْمُومَةٌ وَهِيَ وراء الجدال والمراء فالمراء طعن في كلام الغير بإظهار خلل فيه من غير أن يرتبط به غرض سوى تحقير الغير
وإظهار مزية الكياسة والجدال عبارة عن أمر يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها
والخصومة لَجَاجٌ فِي الْكَلَامِ لِيُسْتَوْفَى بِهِ مَالٌ أَوْ حق مقصود وذلك تارة يكون ابتداء وتارة يكون اعتراضاً
والمراء لا يكون إلا باعتراض على كلام سبق فقد قالت عائشة رضي الله عنها قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن أبغض
(١) حديث رحم الله من كف لسانه عن أهل القبلة إلا بأحسن ما يقدر عليه أخرجه ابن أبي الدنيا بإسناد ضعيف من حديث هشام بن عروة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ورواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من رواية هشام عن عائشة بلفظ رحم الله امرأ كف لسانه عن أعراض المسلمين وهو منقطع وضعيف جدا