للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبينهما مسافة محدودة فمن الناس من قطع نصف القنطرة ومنهم من قطع ثلثها ومنهم من قطع ثلثيها ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها وكيفما كان فلا بد له من العبور والبناء على القنطرة وتزيينها بأصناف الزينة وأنت عابر عليها غاية الجهل والخذلان

مثال آخر للدنيا في لين موردها وخشونة مصدرها اعلم أن أوائل الدنيا تبدو هينة لينة يظن الخائض فيها أن حلاوة خفضها كحلاوة الخوض فيها وهيهات فإن الخوض في الدنيا سهل والخروج منها مع السلامة شديد وقد كتب علي رضي الله عنه إلى سلمان الفارسي بمثالها فقال مثل الدنيا مثل الحية لين مسها ويقتل سمها فأعرض عما يعجبك منها لقلة ما يصحبك منها وضع عنك همومها بما أيقنت من فراقها وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها فإن صاحبها كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصه عنه مكروه والسلام

مثال آخر للدنيا في تعذر الخلاص من تبعتها بعد الخوض فيها قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما مثل صاحب الدنيا كالماشي في الماء هل يستطيع الذي يمشي في الماء أن لا تبتل قدماه (١)

وهذا يعرفك جهالة قوم ظنوا أنهم يخوضون في نعيم الدنيا بأبدانهم وقلوبهم منها مطهرة وعلائقها عن بواطنهم منقطعة وذلك مكيدة من الشيطان بل لو أخرجوا مما هم فيه لكانوا من أعظم المتفجعين بفراقها فكما أن المشي على الماء يقتضي بللاً لا محالة يلتصق بالقدم فكذلك ملابسة الدنيا تقتضي علاقة وظلمة في القلب بل علاقة الدنيا مع القلب تمنع حلاوة العبادة

قال عيسى عليه السلام بحق أقول لكم كما ينظر المريض إلى الطعام فلا يلتذ به من شدة الوجع كذلك صاحب الدنيا لا يلتذ بالعبادة ولا يجد حلاوتها مع ما يجد من حب الدنيا وبحق أقول لكم إن الدابة إذا لم تركب وتمتهن تصعب ويتغير خلقها كذلك القلوب إذا لم ترقق بذكر الموت ونصب العبادة تقسو وتغلظ وبحق أقول لكم إن الزق ما لم ينخرق أو يقحل يوشك أن يكون وعاء للعسل كذلك القلوب ما لم تخرقها الشهوات أو يدنسها الطمع أو يقسيها النعيم فسوف تكون أوعية للحكمة وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما بقي من الدنيا بلاء وفتنة وإنما مثل عمل أحدكم كمثل الوعاء إذا طاب أعلاه طاب أسفله وإذا خبث أعلاه خبث أسفله (٢)

مثال آخر لما بقي من الدنيا وقلته بالإضافة لما سبق قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل هذه الدنيا مثل ثوب شق من أوله إلى آخره فبقي متعلقاً بخيط في آخره فيوشك ذلك الخيط أن ينقطع (٣)

مثال آخر لتأدية علائق الدنيا بعضها إلى بعض حتى الهلاك قال عيسى عليه السلام مثل طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر كلما ازداد شربا ازداد عطشاً حتى يقتله

مثال آخر لمخالفة آخر الدنيا أولها ولنضارة أوائلها وخبث عواقبها اعلم أن شهوات الدنيا في القلب لذيذة كشهوات الأطعمة في المعدة وسيجد العبد عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والنتن والقبح ما يجده للأطعمة اللذيذة إذا بلغت في المعدة غايتها وكما أن الطعام كلما كان ألذ طعماً وأكثر دسماً وأظهر حلاوة كان رجيعه أقذر وأشد نتناً فكذلك كل شهوة في القلب هي أشهى وألذ وأقوى فنتنها وكراهتها والتأذي بها عند الموت أشد


(١) حديث إنما مثل صاحب الدنيا كمثل الماشي في الماء الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب من رواية الحسن قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذكره ووصله البيهقي في الشعب وفي الزهد من رواية الحسن عن أنس
(٢) حديث إنما بقي من الدنيا بلاء وفتنة الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث معاوية فرقه في موضعين ورجاله ثقات
(٣) حديث مثل هذه الدنيا كمثل ثوب شق من أوله إلى آخره أخرجه أبو الشيخ ابن حبان في الثواب وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان من حديث أنس بسند ضعيف

<<  <  ج: ص:  >  >>