للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والنكبات ولا منفك عن شوك ينشب بثيابه وغضن يجرح بدنه وشوكة تدخل في رجله وصوت هائل يفزع منه وعوسج يخرق ثيابه ويهتك عورته ويمنعه عن الانصراف لو أراده فلما بلغه نداء أهل السفينة انصرف مثقلاً بما معه ولم يجد في المركب موضعاً فبقي في الشط حتى مات جوعاً وبعضهم لم يبلغه النداء وسارت السفينة فمنهم من افترسته السباع ومنهم من تاه فهام على وجهه حتى هلك ومنهم من مات في الأوحال ومنهم من نهشته الحيات فتفرقوا كالجيف المنتنة

وأما من وصل إلى المركب بثقل ما أخذه من الأزهار والأحجار فقد استرقته وشغله الحزن بحفظها والخوف من فوتها وقد ضيقت عليه مكانه فلم يلبث أن ذبلت تلك الأزهار وكمدت تلك الألوان والأحجار فظهر نتن رائحتها فصارت مع كونها مضيقة عليه مؤذية له بنتنها ووحشتها فلم يجد حيلة إلا أن ألقاها في البحر هرباً منها وقد أثر فيه ما أكل منها فلم ينته إلى الوطن إلا بعد أن ظهرت عليه الأسقام بتلك الروائح فبلغ سقيماً مدبراً ومن رجع قريباً ما فاته إلا سعة المحل فتأدى بضيق المكان مدة ولكن لما وصل إلى الوطن استراح ومن رجع أولاً وجد المكان الأوسع ووصل إلى الوطن سالماً فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة ونسيانهم موردهم ومصدرهم وغفلتهم عن عاقبة أمورهم وما أقبح من يزعم أنه بصير عاقل أن تغره أحجار الأرض وهي الذهب والفضة وهشيم النبت وهي زينة الدنيا وشيء من ذلك لا يصحبه عند الموت بل يصير كلاً ووبالاً عليه وهو في الحال شاغل له بالحزن والخوف عليه وهذه حال الخلق كلهم إلا من عصمه الله عز وجل

مثال آخر لاغتزار الخلق بالدنيا وضعف إيمانهم قال الحسن رحمه الله بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر أو ما بقي أنفدوا الزاد وخسروا الظهر وبقوا بين ظهراني المفازة ولا زاد ولا حمولة فأيقنوا بالهلكة فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حلة تقطر رأسه فقالوا هذا قريب عهد بريف وما جاءكم هذا إلا من قريب فلما انتهى إليهم قال يا هؤلاء فقالوا يا هذا فقال علام أنتم فقالوا على ما ترى فقال أرأيتم إن هديتكم إلى ماء رواء ورياض خضر ما تعملون قالوا لا نعصيك شيئاً قال عهودكم ومواثيقكم بالله فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئاً قال فأوردهم ماء رواء ورياضاً خضراً فمكث فيهم ما شاء الله ثم قال يا هؤلاء قالوا يا هذا قال الرحيل قالوا إلى أين قال إلى ماء ليس كمائكم وإلى رياض ليست كرياضكم فقال أكثرهم والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أنا لن نجده وما نصنع بعيش خير من هذا وقالت طائفة وهم أقلهم ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله أن لا تعصوه شيئاً وقد صدقكم في أول حديثه فوالله ليصدقنكم في آخره فراح فيمن اتبعه وتخلف بقيتهم فبدرهم عدو فأصبحوا بين أسير وقتيل (١)

ومثال آخر لتنعم الناس بالدنيا ثم تفجعهم على فراقها اعلم أن مثل الناس فيما أعطوا من الدنيا مثل رجل هيأ داراً وزينها وهو يدعو إلى داره على الترتيب قوماً واحداً بعد واحد فدخل واحد داره فقدم إليه طبق ذهب عليه بخور ورياحين ليشمه ويتركه لمن يلحقه لا ليتملكه ويأخذه فجهل رسمه وظن أنه قد وهب ذلك فتعلق به قلبه لما ظن أنه له فلما استرجع منه ضجر وتفجع ومن كان عالماً برسمه انتفع به وشكره ورده بطيب قلب


(١) حديث الحسن بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا هكذا بطوله لأحمد والبزار والطبراني من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فيما يرى النائم ملكان الحديث وفيه فقال أي أحد الملكين إن مثل هذا ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى مفازة فذكر نحوه اخصر منه وإسناده حسن

<<  <  ج: ص:  >  >>