للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ كُلُّ حظ في العاجل معين على أعمال الآخرة كقدر القوت من الطعام والقميص الواحد الخشن وكل ما لا بد منه لبتأتي للإنسان البقاء والصحة التي بها يتوصل إِلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَهَذَا لَيْسَ مِنَ الدُّنْيَا كالقسم الأول لأنه معين على القسم الْأَوَّلِ وَوَسِيلَةٌ إِلَيْهِ فَمَهْمَا تَنَاوَلَهُ الْعَبْدُ عَلَى قَصْدِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ بِهِ مُتَنَاوِلًا لِلدُّنْيَا وَلَمْ يَصِرْ بِهِ من أبناء الدنيا وإن كان باعثه الحظ العاجل دون الاستعانة على التقوى التحق بالقسم الثاني وصار من جملة الدنيا ولا يبقى مع العبد عند الموت إلا ثلاث صفات صفاء القلب أعني طهارته من الأدناس وأنسه بذكر الله تعالى وحبه لله عز وجل

وصفاء القلب وطهارته لا يحصلان إلا بالكف عن شهوات الدنيا والأنس لا يحصل إلا بكثرة ذكر الله تعالى والمواظبة عليه والحب لا يحصل إلا بالمعرفة ولا تحصل معرفة الله إلا بدوام الفكر وهذه الصفات الثلاث هي المنجيات المسعدات بعد الموت

أما طهارة القلب عن شهوات الدنيا فهي من المنجيات إذ تكون جنة بن العبد وبين عذاب الله كما ورد في الأخبار إن أعمال العبد تناضل عنه فإذا جاء العذاب من قبل رجليه جاء قيام الليل يدفع عنه وإذا جاء من جهة يديه جاءت الصدقة تدفع عنه (١) الحديث

وأما الأنس والحب فهما من المسعدات وهما موصلان العبد إلى لذة اللقاء والمشاهدة وهذه السعادة تتعجل عقيب الموت إلى أن يدخل أوان الرؤية في الجنة فيصير القبر روضة من رياض الجنة وكيف لا يكون القبر عليه روضة من رياض الجنة ولم يكن له إلا محبوب واحد وكانت العوائق تعوقه عن دوام الأنس بدوام ذكره ومطالعة جماله فارتفعت العوائق وأفلت من السجن وخلي بينه وبين محبوبه فقدم عليه مسروراً سليماً من الموانع آمناً من العوائق وكيف لا يكون محب الدنيا عند الموت معذباً ولم يكن له محبوب إلا الدنيا وقد غصب منه وحيل بينه وبينه وسدت عليه طرق الحيلة في الرجوع إليه ولذلك قيل

ما حال من كان له واحد ... غيب عنه ذلك الواحد

وليس الموت عدماً إنما هو فراق لمحاب الدنيا وقدوم على الله تعالى فإذا سالك طريق الآخرة هو المواظب على أسباب هذه الصفات الثلاث وهي الذكر والفكر والعمل الذي يفطمه عن شهوات الدنيا ويبغض إليه ملاذها ويقطعه عنها وكل ذلك لا يمكن إلا بصحة البدن وصحة البدن لا تنال إلا بقوت وملبس ومسكن ويحتاج كل واحد إلى أسباب فالقدر الذي لا بد منه من هذه الثلاثة إذا أخذه العبد من الدنيا للآخرة لم يكن مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا وَكَانَتِ الدُّنْيَا فِي حَقِّهِ مزرعة للآخرة وإن أخذ ذلك لحظ النفس وعلى قصد التنعم صار من أبناء الدنيا والراغبين في حظوظها إلا أن الرغبة في حظوظ الدنيا تنقسم إلى ما يعرض صاحبه لعذاب الآخرة ويسمى ذلك حراماً وإلى ما يحول بينه وبين الدرجات العلا ويعرضه لطول الحساب ويسمى ذلك حلالاً والبصير يعلم أن طول الموقف في عرصات القيامة لأجل المحاسبة أيضاً عذاب فمن نوقش الحساب عذب (٢)

إذ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حلالها حساب وحرامها عذاب (٣)

وقد قال أيضاً حلالها عذاب إلا أنه عذاب أخف من عذاب الحرام


(١) حديث مناضلة أعمال العبد عنه فإذا جاء العذاب من قبل رجليه جاء قيام الليل فدفع عنه الحديث أخرجه الطبراني من حديث عبد الرحمن بن سمرة بطوله وفيه خالد بن عبد الرحمن المخزومي ضعفه البخاري وأبو حاتم ولأحمد من حديث أسماء بنت أبي بكر إذا دخل الإنسان قبره فإن كان مؤمنا أحزبه عمله الصلاة والصيام الحديث وإسناده صحيح
(٢) حديث من نوقش الحساب عذب متفق عليه من حديث عائشة
(٣) حديث حلالها حساب وحرامها عذاب أخرجه ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب من طريقه موقوفا على علي بن أبي طالب بإسناد منقطع بلفظ وحرامها النار ولم أجده مرفوعا

<<  <  ج: ص:  >  >>