للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بل لو لم يكن الحساب لكان ما يفوت من الدرجات العلا في الجنة وما يرد على القلب من التحسر على تفوتها لحظوظ حقيرة خسيسة لا بقاء لها هو أيضاً عذاب وقس به حالك في الدنيا إذا نظرت إلى أقرانك وقد سبقوك بسعادات دنيوية كيف يتقطع قلبك عليها حسرات مع علمك بأنها سعادات منصرمة لا بقاء لها منغصة بكدورات لا صفاء لها فما حالك في فوات سعادة لا يحيط الوصف بعظمتها وتنقطع الدهور دون غايتها فكل من تنعم في الدنيا ولو بسماع صوت من طائر أو بالنظر إلى خضرة أو شربة ماء بارد فإنه ينقص من حظه في الآخرة أضعافه وهو المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه هذا من النعيم الذي تسئل عنه (١)

أشار به إلى الماء البارد والتعرض لجواب السؤال فيه ذل وخوف وخطر ومشقة وانتظار وكل ذلك من نقصان الحظ ولذلك قال عمر رضي الله عنه اعزلوا عني حسابها حين كان به عطش فعرض عليه ماء بارد بعسل فأداره في كفه ثم امتنع عن شربه فالدنيا قليلها وكثيرها حرامها وحلالها ملعونة إلا ما أعان على تقوى الله فإن ذلك القدر ليس من الدنيا وكل من كانت معرفته أقوى وأتقن كان حذره من نعيم الدنيا أشد حتى أن عيسى عليه السلام وضع رأسه على حجر لما نام ثم رماه إذ تمثل له إبليس وقال رغبت في الدنيا وحتى أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مُلْكِهِ كَانَ يطعم الناس لذائذ الأطعمة وهو يأكل خبز الشعير فجعل الملك على نفسه بهذا الطريق امتهاناً وشدة فإن الصبر على لذائذ الأطعمة مع القدرة عليها ووجودها أشد ولهذا روي أن الله تعالى زوى الدنيا عن نبينا صلى الله عليه وسلم فكان يطوي أياماً (٢)

وكان يشد الحجر على بطنه من الجوع (٣)

ولهذا سلط الله البلاء والمحن على الأنبياء والأولياء ثم الأمثل فالأمثل كل ذلك نظراً لهم وامتناناً عليهم ليتوفر من الآخرة حظهم كما يمنع الوالد الشفيق ولده لذة الفواكه ويلزم ألم الفصد والحجامة شفقة عليه وحباً له لا بخلاً عليه وقد عرفت بهذا أن كل مَا لَيْسَ لِلَّهِ فَهُوَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا هو لله فذلك ليس من الدنيا

فإن قلت فما الذي هو لله فأقول الأشياء ثلاثة أقسام منها مالا يتصور أن يكون لله وهو الذي يعبر عنه بالمعاصي والمحظورات وأنواع التنعمات في المباحات وهي الدنيا المحضة المذمومة فهي الدنيا صورة ومعنى ومنها ما صورته لله ويمكن أن يجعل لغير الله وهو ثلاثة الفكر والذكر والكف عن الشهوات فإن هذه الثلاثة إذا جرت سراً ولم يكن عليها باعث سوى أمر الله واليوم الآخر فهي لله وليست من الدنيا وإن كان الغرض من الفكر طلب العلم للتشرف به وطلب القبول بين الخلق بإظهار المعرفة أو كان الغرض من ترك الشهوة حفظ المال أو الحمية لصحة البدن والاشتهار بالزهد فقد صار هذا من الدنيا بالمعنى وإن كان يظن بصورته أنه لله تعالى ومنها ما صورته لحظ النفس ويمكن أن يكون معناه لله وذلك كالأكل والنكاح وكل ما يرتبط به بقاؤه وبقاء ولده فإن كان القصد حظ النفس فهو من الدنيا وإن كان القصد الاستعانة به على التقوى فهو لله بمعناه وإن كانت صورته صورة الدنيا قال صلى الله عليه وسلم من طلب الدنيا حلالاً مكاثراً مفاخراً لقي الله وهو عليه غضبان ومن طلبها استعفافاً عن المسألة وصيانة لنفسه جاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر (٤)

فانظر كيف اختلف ذلك بالقصد فإذاً الدُّنْيَا حَظُّ نَفْسِكَ الْعَاجِلُ الَّذِي لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ لِأَمْرِ الْآخِرَةِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْهَوَى وَإِلَيْهِ الإشارة بقوله تعالى ونهى النفس عن


(١) حديث هذا من النعيم الذي تسئل عنه تقدم في الأطعمة
(٢) حديث زوى الله الدنيا عن نبينا صلى الله عليه وسلم فكان يطوي أياما أخرجه محمد بن خفيف في شرف الفقراء من حديث عمر بن الخطاب قال قلت يا رسول الله عجبا لمن بسط الله لهم الدنيا وزواها عنك الحديث وهو من طريق إسحاق معنعنا وللترمذي وابن ماجه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيت الليالي المتتابعة طاويا وأهله الحديث قال الترمذي حسن صحيح
(٣) حديث كان يشد الحجر على بطنه من الجوع تقدم
(٤) حديث من طلب الدنيا حلالاً مكاثراً مفاخراً لقي الله وهو عليه غضبان الحديث أخرجه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة بسند ضعيف

<<  <  ج: ص:  >  >>