للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهنا يسأل سائل: لم يحذف العرب في كلامهم ما يحذفون؟

العرب تفعل ذلك لأمرين:

الأول: الإيجاز البلاغي لما يفهمه السامع من غير حاجته إلى ذكره، فالإيجاز فيما لا يخل بالمعنى ضرب من البلاغة لا يستغني عنه أرباب البيان، لما فيه من صون الكلام عن الحشو.

ومنه قوله تعالى: {قال لو أن لي بكم قوةً أو آوي إلى ركنٍ شديدٍ (٨٠) قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك} (هود: ٨٠ - ٨١)، فخبر {لو أن لي بكم قوةً أو آوي إلى ركنٍ شديدٍ} محذوف، والتقدير: لو أن لي بكم قوةً أو آوي إلى ركنٍ شديدٍ لأويت إليه.

وكذلك قوله تعالى: {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم} (التوبة: ١١٨)، وتقديره: لما ضاقت عليهم الأرض ألهمهم الله التوبة ثم تاب عليهم.

الثاني: أن الحذف يكون أحياناً أبلغ من التصريح في المعنى وأوقع.

وضربوا له بأمثلة منها: قول الكريم: إن جئتني أعطيتك ...

فتركُ الكريمِ التصريحَ بالمُعطى أوقع وأرجى في نفس السامع من قوله: إن جئتني أعطيتك كذا وكذا.

ومن أمثلته أيضاً إنذار القوي المقتدر لعدوه: والله لئن قمت إليك لأفعلن بك ... فسكوت القوي عن التصريح بأنواع الوعيد يذهب بفكر المُتوعَد كل مذهب، فلا يدري أي أنواع المكروه - من الضرب والقتل والكسر - يصيبه، فتتمثل في فكره صور من العقوبات لم يخطر بعضها في ذهن المتوعِد، وتتكاثر عليه وتؤرقه، وهي ولا ريب أبلغ في نفسه وأزجر من قول المتوعِد: لئن قمت إليك لأضربنك.

وقد وقع في القرآن في غير ما موضعٍ حذفُ ما يفهم من السياق لقصد الزجر والتخويف، منه قوله تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم} (النور: ٢٠)، فحذف جواب {لولا}، والتقدير فيه: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لفضحكم بما ترتكبون من الفاحشة ولعاجلكم بالعقوبة قبل التوبة و ....

يقول العلامة أبو السعود في تعليل هذا الحذف: «وجواب لولا محذوف لتهويله، والإشعار بضيق العبارة عن حصره، كأنه قيل: ولولا تفضله تعالى عليكم ورحمته، وأنه تعالى مبالغ في قبول التوبة، حكيم في جميع أفعاله، وأحكامه التي من جملتها ما شرع لكم من حكم اللعان، لكان ما كان مما لا يحيط به نطاق البيان» (١).

ومثله في استدعاء المعاني الكثيرة بحذف الجواب ما جاء في قوله تعالى: {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعاً} (الرعد: ٣١)، والتقدير: لو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى لما آمنوا به.

ويصح أيضاً وجه آخر: لكان هذا القرآن.

فحذفُ الجوابِ فتحَ الباب أمام ذهن السامع ليجول في كلا المعنيين الصحيحين، وهو يقول: صدق الله العظيم بقوله: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثلٍ لعلهم يتذكرون (٢٧) قرآناً عربياً غير ذي عوجٍ لعلهم يتقون} (الزخرف: ٢٧ - ٢٨).

وقد يغين الشيطان على أحدهم، فيتساءل: هل تعرف العرب مثل هذا الحذف في كلامها؟

ونقول: نعم، فذلك تعرفه العرب في كلام بلغائها، والقرآن النازل بلسان العرب وافقهم في أساليبهم وطرائق بيانهم، ومنها حذفهم الخبر أو جواب القسم.

قال امرؤ القيس:

فَلَوْ أَنَّهَا نَفْسٌ تَموتُ جَمِيعَةً ... ولكِنَّهَا نَفْسٌ تَسَاقَطُ أَنْفُسَاً

فقوله: (لو أنها نفس تموت جميعة) مبتدأ محذوف الخبر، وتقديره: لفنيت أو لاستراحت بموتها. فحذفُ الخبر يعطي الفرصة لإعمال الخبرين.

وكذلك قال جرير:

كذب العواذل لو رأين مناخنا ... بحزيز رامة والمطي سوامي

ولم يقل: لرأين ما يشجيهن ويسخن أعينهن.

وقال الشاعر:

قالت بنات العم يا سلمى وإنْ ... كان فقيراً معدماً قالت وإنْ

أي رضيت زواجه وإن كان فقيراً.

وقال حاتم طيء مقالة صارت مثلاً حين أُسر، فلطمته جارية: لو غيرُ ذات سوار لطمتني.

أي لو كان ظالمي رجلاً ذا قدر لكان سهلاً عليّ، أو لاقتصصت منه (٢).

والعرب تعرف الاختصار في كلامها، لا في الجمل والكلمات فحسب، بل قد تختصر الكلمة الواحدة، وتكتفي عنها بحرف، وهو ضرب لم يرد له في القرآن مثل، لما قد يقع فيه من التوهم، قال ابن مكناس:

لم أنس بدرا زارني ليلة ... مستوفراً ممتطياً للخطر

فلم يقف إلا بمقدار ما ... قلت له أهلاً وسهلاً ومر [أي: مرحبا].

وقال الشاعر:

ما للظليم عَالَ كَيْفَ لا يا ... ينقَدُّ عنه جلده إذاً يا

قال الطبري: كأنه أراد أن يقول: إذا يفعل كذا وكذا، فاكتفى بالياء من يفعل (٣).

وقال آخر:

وبالخير خيرات وإن شرا فآ [أي: فشر] ... ولا أريد الشر إلا أن تآ [أي: تشاء]

وقال آخر:

قلنا قفي لنا فقالت قاف [أي وقفتُ] ... لا تَحْسَبِي أنا نَسينا الإيجاف

فمن عرف أمثال هذا في كلام العرب أدرك بلاغة القرآن وعظمة بيانه، وأدرك أيضاً جهل الطاعنين فيه على غير هدى.

٣. قالوا: لم يذكر القرآن جواب القسم في قوله تعالى: {والفجر (١) وليالٍ عشرٍ (٢) والشفع والوتر (٣) والليل إذا يسر (٤) هل في ذلك قسمٌ لذي حجرٍ (٥) ألم ترى كيف فعل ربك بعادٍ (٦)} (الفجر: ١ - ٦)، وتساءلوا ما فائدة القسم إذا لم يذكر جوابه.

والجواب:

ليس في القرآن قسم ليس له جواب، لكن جواب القسم قد يذكر صراحة، وقد يضمر، ويفهمه السامع بقرينة من السياق، يقول سيبويه: «والحذف في كلامهم كثير، إذا كان في الكلام ما يدل عليه».

وفي الآية المستشكلة جواب للقسم محذوف تقديره: والفجر وليال عشر ليعذبن الله الكفار كما فعل بعاد ذات العماد وثمود وفرعون ذي الأوتاد.

وقد ورد إضمار جواب القسم في غير ما موضع من القرآن الكريم، ومنه قوله تعالى: {ص والقرآن ذي الذكر (١) بل الذين كفروا في عزةٍ وشقاقٍ} (ص: ١ - ٢) وجواب القسم مضمر محذوف، تقديره: ص والقرآن ذي الذكر، إنك لرسول الله، والذين كفروا في عزة وشقاق.

قال ابن عاشور: "والغرض من حذف جواب القسم هنا الإِعراض عنه إلى ما هو أجدر بالذكر، وهو صفة الذين كفروا وكذبوا القرآن عناداً أو شقاقاً منهم" (٤)

ومما حذف فيه جواب القسم أيضاً قوله تعالى: {والنازعات غرقاً (١) والناشطات نشطاً (٢) والسابحات سبحاً (٣) فالسابقات سبقاً (٤) فالمدبرات أمراً (٥) يوم ترجف الراجفة} (النازعات: ١ - ٦)، أي: والنازعات والناشطات .. لتبعثُنَّ يومَ ترجف الراجفة.

ومثله قوله تعالى: {لا أقسم بيوم القيامة (١) ولا أقسم بالنفس اللوامة (٢) أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه}، وجواب القسم فيه محذوف، دل عليه السياق، أي: أقسم لتبعثن ولتحاسبن وليجزين كل نفس بما كسبت.


(١) تفسير أبو السعود (٦/ ١٥٩).
(٢) سر صناعة الإعراب، ابن جني (٢/ ٦٤٨).
(٣) جامع البيان (١/ ٢١٣)، وانظر تفسير ابن كثير (٢/ ٦٤٨).
(٤) التحرير والتنوير (٢٣/ ٢٠٤).

<<  <   >  >>