قالوا: أخطأ القرآن حين نسب إلى اليهود القول بأن المسيح رسول الله، وهم يكفرون به، وذلك في قوله تعالى:{وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً * وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله}(النساء: ١٥٦ - ١٥٧).
الجواب: من المتيقن عندنا أن اليهود كفروا بالمسيح عليه السلام، واتهموه وأمه بأشنع القبائح، وهو ما حكته الآية الكريمة عنهم حين وصفتهم بالكفر {وبكفرهم}، والمقصود كفرهم بالمسيح كما هو واضح من سياق التالية لها:{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}(النساء: ١٥٩).
وأما وصفهم للمسيح بأنه رسول الله فجاء منهم على سبيل التهكم والسخرية منه، أو على معنى مقدر (قتلنا المسيح الذي يزعم أنه رسول الله)، وهو أسلوب في الإضمار معلوم عند أرباب البلاغة، ورد مراراً في القرآن الكريم، ومنه قوله تعالى: {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنونٌ (٦) لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين} (الحجر: ٦ - ٧)، فكفار قريش يصفون النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنون، ولا يؤمنون بأن القرآن (ذِكر)، ولا يصدقون بنزوله على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقولهم:{نزل عليه الذكر} خرج مخرج السخرية منه، أو بمعنى:(يا أيها الذي يزعم أنه نزل عليه الذكر).
ومثله ما حكاه الله عز وجل عن وصف اليهود للقرآن في قوله تعالى:{وقالت طائفةٌ من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون}(آل عمران: ٧٢)، فوصفهم للفرآن بأنه {أًنزل}، وللصحابة بأنهم {الذين آمنوا} خرج مخرج السخرية من القرآن والمؤمنين، أو على سبيل حكاية قولهم، بمعنى:(آمِنوا بالقرآن الذي يزعمون هؤلاء الإيمان به، وأنه منزل من عند الله).
ومثله أيضاً ما حكاه الله تعالى من قول كفار قوم شعيب عليه السلام {قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد}(هود: ٨٧)، أي (أنت الذي تزعم أنك الحليم الرشيد).
ومثله كذلك خرج مخرج السخرية والاستصغار للمشرك حين يدخل النار قولُ الله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم (٤٩) إن هذا ما كنتم به تمترون} (الدخان: ٤٩ - ٥٠)، أي (كنت تزعم أنك العزيز الكريم).
فمن عرف ما عرف العرب لم ينكر ما سكتوا عنه، فإن القرآن نزل بلسانهم، ووفق طرائقهم في البيان والتعبير، ومنها التهكم والحكاية.