ثامناً: هل أخطأ القرآن بذكر هامان المصري؟
قالوا: أخطأ القرآن فنسب هامان الفارسي إلى أرض مصر، وجعله وزيراً لفرعون إبان حياة موسى عليه السلام؛ خلافاً لما تذكره التوراة عن هامان الفارسي في سفر إستير، فقد كان وزيراً وخليلاً لأحشوريش (زركيس) ملك الفرس, بعد موسى بـ ١١٠٠ سنة.
والجواب: من عجائب الطاعنين في القرآن أنهم يحاكمونه إلى كتبهم المقدسة، والتي لا يعرف كاتبها في الجملة، ولا يمكن توثيق شيء من صفحاتها، فتصبح هذه الكتب - التي تدعو أحوالها للرثاء - ميزاناً يقيسون عليه كتب الآخرين.
ولو تحدثنا عن سفر إستير تحديداً فإنه سفر مجهول المؤلف، قال الدكتور سمعان كلهون في كتابه " مرشد الطالبين " عن كاتبه: (مجهول)، فهل يليق عند العقلاء محاكة القرآن إلى مرجع لا سند له، وكاتبه مجهول!.
وقد تشكك في مصدر هذا السفر المحققون من أهل الكتاب، فتوقفوا في قداسته وأصالته بل وتاريخيته، ونقل ذلك البروفيسور إسرائيل لركن عن كل النقاد المعاصرين تقريباً. وكان مارتن لوثر في القرن السادس عشر قد سبق إلى القول: «ليت هذا السفر لم يوجد»، متابعاً في قوله من سبقه من الآباء الأوائل المنكرين لقدسية هذا السفر التوراتي الذي خلت من اسمه قائمة الأسقف مليتو أسقف سارديس عام ١٧٠م، وهو صاحب أقدم قوائم الأسفار المقدسة، ولتخلو منه أيضاً بعد ذلك قائمة البابا أثناسيوس نجم مجمع نيقية وواضع قانونه الشهير (١).
ولو سلمنا بصحة القصة الأسطورية التي يحكيها سفر إستير عن هامان الفارسي؛ فإنه ليس ثمة ما يمنع أن يتسمى بهذا الاسم أيضاً واحد من وزراء أو مستشاري فرعون ملك مصر، ولا يمكن إقامة دليل على عدم وجود مستشار بهذا الاسم أو اللقب.
بل الحقيقة بخلافه، فقد ذكر المحققون وجود هامان قريباً من فرعون، ففي كتابه ( Moise et Pharaon) " موسى وفرعون" يقول الدكتور موريس بوكاي ما نصه: «يذكر القرآن الكريم شخصاً باسم هامان هو من حاشية فرعون، وقد طلب إليه هذا الأخير أن يبني صرحاً عالياً يسمح له، كما يقول ساخراً من موسى، أن يبلغ رب عقيدته.
وأردت أن أعرف إن كان هذا الاسم يتصل باسم هيروغليفي من المحتمل أنه محفوظ في وثيقة من وثائق العصر الفرعوني، ولم أكن لأرضى بإجابة عن ذلك إلا إذا كان مصدرها رجلاً حجة فيما يخص اللغة الهيروغليفية وهو يعرف اللغة العربية الفصحى بشكل جيد، فطرحت السؤال على عالم المصريات وهو فرنسي يتوافر فيه الشرطان المذكوران تماماً.
لقد كتبت أمامه اسم العلم العربي (هامان) ولكنني أحجمت عن إخبار مخاطبي بحقيقة النص المعني، واكتفيت بإخباره أن هذا النص يعود تاريخه بشكل لا يقبل النقض إلى القرن السابع الميلادي. كان جوابه الأول أن هذا الأصل مستحيل، لأنه لا يمكن وجود نص يحتوي على اسم علم من اللغة الهيروغليفية، وله جرس هيروغليفي، ويعود إلى القرن السابع الميلادي، وهو غير معروف لحد الآن، والسبب أن اللغة الهيروغليفية نسيت منذ زمن بعيد جداً.
بيد أنه نصحني بمراجعة معجم أسماء الأشخاص في الإمبراطورية الجديدة Dictionary of Personal names of the New والبحث فيه إن كان هذا الاسم الذي يمثل عندي الهيروغليفية موجوداً فيه حقاً. لقد كان يُفترض ذلك.
وعند البحث وجدته مسطوراً في هذا المعجم تماماً كما توقعته، ويا للمفاجأة!! ها أنا فضلاً عن ذلك أجد أن مهنته كما عُبر عنها باللغة الألمانية (رئيس عمال المقالع)، ولكن دون إشارة إلى تاريخ الكتابة إلا أنها تعود إلى الإمبراطورية التي يقع فيه زمن موسى، وتشير المهنة المذكورة في الكتابة إلى أن المذكور كان مهتماً بالبناء مما يدعو إلى التفكير بالمقاربة التي يمكن إجراؤها بين الأمر الذي أصدره "فرعون" في القرآن وبين هذا التحديد في الكتاب».
وهذا الاسم لهامان المصري أشير إليه في لوح أثري في متحف هوف في فينا وفي مجموعة من النقوش كشفت لنا أن هامان كان رئيس عمال محجر البناء، وقد كشف عنه كنت كتشن ( K.A. Kitchen) في كتابه ( Pharaoh Triumphant the life and times of Ramesses II) ، وترجمه إلى العربية أحمد زهير أمين بعنوان " رمسيس الثاني، فرعون المجد والانتصار "، وفيه يتحدث كتشن نقلاً عن المكتشفات المصرية عن الشاب em inet Amen ابن (ون نفر) كبير كهنة آمون.
Amen أو (هامن) كان صديقاً مقرباً للأمير الذي سيصبح بعد برهة الملك الفرعوني رمسيس الثاني، ويتحدث بإسهاب عنه وعن عائلته، وعن المناصب التي تقلدها وأقرباؤه في البلاط الملكي، فقد رقاه رمسيس الثاني إلى قائد المركبات الملكية قبل أن يصبح رسوله ثم مديراً لمشاريعه ومسؤولاً عن قطاع الصناعة في بلاط الملك.
وهكذا فإن القرآن يثبت مرة بعد مرة أنه كلام الله العليم الذي أطلع نبيه - صلى الله عليه وسلم - على أخبار الغيب الحاضرة والمستقبلة {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين} (هود: ٤٩).
(١) انظر قاموس الكتاب المقدس، ص (٦٤).