للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

(*)

المسألة السادسة: هل يعود الضمير على غير مذكور في السياق؟

قالوا: كيف يعود القرآن بالضمير على غير مذكور في القرآن كله، وذلك في آية رفع المسيح وإلقاء شبهه على غيره، وهي قوله تعالى: {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم} (النساء: ١٥٧)، أي: (شُبِّه لهم غيرُ المسيح بالمسيح)، فالهاء في {شُبِّه} تعود على (المصلوب البديل)، وهو غير مذكور في السياق، لا بل هو غير مذكور في القرآن كله؟

والجواب: القرآن نزل في مخاطبة العقلاء، ومن فائق بلاغة البليغ أن يطوي أو يضمر ذكر بعض ما يعرفه السامعون ببداهة عقولهم، فيستغنون بها عما لا يستغني عنه أصحاب البلادة.

وقد كان من عادة العرب في كلامهم العودُ بالضمير على غير مذكور في السياق لاستغناء السامع عن ذكره، لذا وردت أمثلة عديدة له في آيات القرآن الكريم، ومنها قوله تعالى في صدر سورة القدر: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر: ١)، فالضمير في قوله {أنزلناه} يعود على (القرآن الكريم)، وهو غير مذكور في السورة، لكنه مفهوم من السياق.

ومثله عود الضمير في قوله تعالى: {كلا إذا بلغت التراقي (٢٦) وقيل من راقٍ} (القيامة: ٢٦ - ٢٧)، وقوله: {فلولا إذا بلغت الحلقوم (٨٣) وأنتم حينئذٍ تنظرون} (الواقعة: ٨٣ - ٨٤)، فالضمير في كلتا الآيتين في قوله: {بلغت} يراد منه (الروح)، وهي غير مذكورة في السياقين، لكنها مما يفهمه السامع، فيستغنى عن ذكرها البلغاء.

وكذلك يقرأ القارئ قوله تعالى: {فاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً} (الواقعة: ٣٢ - ٣٦)، فيعرف أن ضمير النسوة في قوله: {أنشأناهن} يراد منه (حوريات الجنة)، رغم أنهن غير مذكورات في السياق.

وهو كذلك يدرك عود الضمير على (الأرض) حين يقرأ قول الله تعالى: {كل من عليها فانٍ} (الرحمن: ٢٦)، وقوله: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} (فاطر: ٤٥)، ومع أن (الأرض) غير مذكورة في السياقين، فإن معنى قوله: (عليها، ظهرها) لم يلتبس على أحد ممن يفقه كلام العرب وأساليبهم، فهذا أسلوب عربي في البيان، سجلوه في الكثير من أشعارهم التي تمثل إحدى ذرى البيان العربي، فمنه قول حميد بن ثور:

وصهباء منها كالسفينة نضجت ... به الحمل حتى زاد شهراً عديدها

فالضمير في قوله: (منها) يراد به (الإبل)، وهن غير مذكورات فيما قبله من أبيات.

ومثله قول حاتم الطائي في مطلع رائيته:

أماويُ ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

فقوله: (حشرجت وضاق بها) يعني به حشرجة (الروح)، وهي غير مذكورة في هذا البيت الذي استفتح به قصيدته.

وكذلك قول لبيد في معلقته:

حتى إذا ألقت يداً في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها

فالضمير في قوله: (ألقت)، يراد منه (الشمس)، ولم يجر لها ذكر فيما قبله، ولكن يدل عليه عجز البيت، وهو قوله: وأجن عورات الثغور ظلامها.

ومثله كذلك قول طرفة في معلقته:

على مثلها أمضي إذا قال صاحبي ألا ليتني أفديك منها وأفتدي

فالضمير في قوله (مثلها) عائد على (الفلاة) ولم يرد لها ذكر في الأبيات قبله، لكنه مفهوم من السياق، فاستغنى البلغاء عن التصريح به لاستغناء العقلاء عنه.

وهكذا فإن عود الضمير على غير مذكور في السياق ضرب من ضروب البلاغة التي لم يعرفها الطاعنون في القرآن، فحالنا وحالهم كما قال الشاعر:

إذا حسناتي اللاتي أدل بها ... صارت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر


(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: المسألة (السادسة والسابعة)، مما زاده المؤلف في هذه النسخة الإلكترونية، وليس بالمطبوع

<<  <   >  >>