للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

(*)

سابعاً: هل نسب القرأن إلى المسيح صفة الخالقية؟

قالوا: القرآن يعتبر المسيح خالقاً محيياً للموتى {ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآيةٍ من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله} (آل عمران: ٤٩)، ولم يشهد بمثل ذلك لغيره من المخلوقات، فالخلق صنعة الله التي لا يشاركه فيها إلا المسيح، وفي هذا دليل ألوهيته واستحقاقه للعبادة، ويوافق ما ذكره العهد الجديد عن المسيح "الله خالق الجميع بيسوع المسيح" (أفسس ٣/ ٩)، وفي إنجيل يوحنا "كان في العالم، وكوِّن العالم به، ولم يعرفه العالم" (يوحنا ١/ ١٠).

والجواب: لا ريب أن الله خالق كل شيء {الله خالق كل شيءٍ وهو على كل شيءٍ وكيلٌ} (الزمر: ٦٢)، فالآيات التي تقرر هذه الحقيقة لا يتسع المقام لتعدادها، وكلها تؤكد على حقيقة تفرد الله بالخالقية التي لم يشاركه فيها أحد من خلقه، ولا المسيح عليه السلام، فهو مخلوق أكذب الله مؤلهيه، وكفرهم وتوعدهم بالبوار {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيءٍ قديرٌ} (المائدة: ١٧).

وحين تحدثت الآيات القرآنية عن معجزات عيسى عليه السلام؛ ما فتئت تذكر أن هذه المعجزات عطية الله تعالى لنبيه المسيح عليه السلام {قد جئتكم بآيةٍ من ربكم}، وقد صنعها وغيرها من المعجزات بإذن الله {أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله}، فمعجزاته عليه السلام ومعجزات غيره من الأنبياء لا تنفك عن مشيئة الله وإقدارهم عليها.

فهل نسب القرآن الخالقية المطلقة للمسيح حين قال {أخلق لكم}؟

والجواب بدون ريب ولا تلكؤ: لا.

ولفهم الآيات يحسن الوقوف على معنى لفظة (الخلق) في لغة العرب، إذ تطلق هذه اللفظة على معان؛ ويهمنا منها معنيان:

الأول: الإيجاد من العدم، والإبداع من غير مثال سابق، فالله {بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولدٌ ولم تكن له صاحبةٌ وخلق كل شيءٍ وهو بكل شيءٍ عليمٌ} (الأنعام: ١٠١)، فهذا خلق يختص به الله وحده.

الثاني: التصوير لما أوجده الله وخلقه، ومنه قول الله: {فتبارك الله أحسن الخالقين} (المؤمنون: ١٤)، فقد وردت في سياق الحديث عن تصوير الإنسان ونقله من طور إلى طور {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون: ١٤).

قال القرطبي: «أتقن الصانعين. يقال لمن صنع شيئاً خلقه؛ ومنه قول الشاعر:

ولأنت تقري ما خلقت وبعـ ... ـض القوم يخلق ثم لا يفري

ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع؛ وإنما هي منفية بمعنى الاختراع وإيجاد من العدم» (١).

وبمثل هذا المعنى تحدث القرآن عن صنع عيسى من الطين كهيئة الطير {أني قد جئتكم بآيةٍ من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله} (آل عمران: ٤٩).

قال أبو حيان الأندلسي: «والخلق يكون بمعنى الإنشاء وإبراز العين من العدم الصرف إلى الوجود. وهذا لا يكون إلاَّ لله تعالى. ويكون بمعنى: التقدير والتصوير، ولذلك يسمون صانع الأديم ونحوه: الخالق، لأنه يقدّر، وأصله في الأجرام، وقد نقلوه إلى المعاني، قال تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} (العنكبوت: ١٧)، ومما جاء الخلق فيه بمعنى التقدير قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} أي المقدّرين» (٢).

ومن هذا المعنى أيضاً ما يقال يوم القيامة للمصورين، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم» (٣)، أي ما صورتموه من الصور، فهذا معنى الكلمة في لغة العرب لمن أراد تدبراً وحقاً.

وبقي في جواب هذه الأبطولة أن ننبه القائلين بها إلى أن المسيح لم يدع في الإنجيل المنسوب إلى تلاميذه وتلاميذهم أنه خالق، وأن غاية ما ذكره بولس أن الله هو الخالق، ولكنه خلق الخلائق به "الله خالق الجميع بيسوع المسيح" (أفسس ٣/ ٩)، فهو واسطة الخلق، وليس الخالق، يقول القس جيمس أنِس: " الآب خلق العالم بواسطة الابن" (٤).


(١) الجامع لأحكام القرآن (١٢/ ١١٠).
(٢) البحر المحيط (٢/ ٤٨٧).
(٣) أخرجه البخاري ح (٥١٨١)، ومسلم ح (٢١٠٧).
(٤) علم اللاهوت النظامي، القس الدكتور جيمس أنس، ص (١٧٨)، وللمزيد من البيان انظر كتابي"الله جل جلاله واحد أم ثلاثة؟ ".

(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذه الصفحة مما زاده المؤلف في هذه النسخة الإلكترونية، وليس بالمطبوع

<<  <   >  >>