للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أولاً: دلالة آيات العتاب:

البشر حين يكتبون فإنهم يمجدون أنفسهم ويعظمون عند الناس ذواتهم، فالبشر يكتبون ليخلدوا ذكرهم ومفاخرهم، وهم بالطبع يتعامون عن ذكر معايبهم وأخطائهم، فما لتخليد هذا يكتبون.

ولم يسجل التاريخ البشري عن كاتب ما سجله القرآن من عتاب الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - على بعض ما فعله، ولو كان القرآن من إنشائه لبرر له فِعاله، وصوّب خطأه، فآي القرآن على خلاف ما نعتاده من البشر ونسقهم وطرائقهم في التأليف.

والمواضع التي عاتب الله فيها نبيه - صلى الله عليه وسلم - عديدة، منها أنه لما جاءه المنافقون بعد غزوة تبوك يعتذرون عن تخلفهم بأعذار كاذبة؛ قبِل منهم أعذارهم، وعفا عنهم، فعاتبه ربه عز وجل: {عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (التوبة: ٤٣) (١).

ومنها أنه لما جاء إليه زيد بن حارثة يستشيره في طلاق امرأته زينب؛ أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بإمساكها، مع أن الله أعلمه أن زيداً سيطلقها، وأنها ستكون زوجة له - صلى الله عليه وسلم - وأُمّاً للمؤمنين، فكشف القرآن سر نفسِه: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ الله وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَالله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} (الأحزاب: ٣٧)، تقول عائشة رضي الله عنها: (ولو كان محمد - صلى الله عليه وسلم - كاتماً شيئاً مما أُنزل عليه؛ لكتم هذه) (٢).

ومنها أنه لما دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - نفر من سادات قريش، فجعل يعرض عليهم الإسلام وهو يطمع في إسلامهم، وفيما هم كذلك دخل عليه عبد الله بن أم مكتوم وهو أعمى يسأله، فأعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقبل على السادة طمعاً في إسلامهم،


(١) انظر: جامع البيان، الطبري (١٤/ ٢٧٢).
(٢) أخرجه البخاري ح (٧٤٢٠)، ومسلم ح (١٧٧).

<<  <   >  >>