للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المسألة السابعة: هل في القرآن ما هو لغو ولا معنى له؟

قالوا: إن في القرآن ما يعتبر لغواً في الكلام، ولا فائدة من ذكره، ومقصدهم ما جاء في قوله تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيامٍ في الحج وسبعةٍ إذا رجعتم تلك عشرةٌ كاملةٌ} (البقرة: ١٩٦)، فقالوا: {عشرة كاملة} لا داعي لها، لأن كل سامع للآية يعرف أن ٧+٣=١٠.

والجواب:

كلام العقلاء والبلغاء قائم على الاختصار غير المخل والإسهاب غير الممل، فثمة مواضع يحلو فيها الكلام بذكر بعض لا يخلو من بعض التفاصيل، فنقول: رأيته بعيني. وسمعته بإذني. والرؤية لا تكون إلا بالعين، والسمع لا يكون إلا بالأذن، ومع ذلك لا يعتبر هذا من لغو الكلام، بل هو متمم لجماله.

والعرب في بليغ كلامها إذا ذكرت عددين فإنها تجمعهما فيما يسمونه الفذلكة (١)، ولا يرون في ذلك لغواً أو عيباً، قال ابن عرفة: «مذهب العرب إِذا ذَكَرُوا عَدَدين أَن يُجْمِلُوهما» (٢)، وبمثله نزل القرآن كما في الآية التي استشكلوها، وكذلك في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} (الأعراف: ١٤٢).

وشواهد الفذلكة في شعر العرب كثير، منها قول النابغة:

توهَّمْتُ آياتٍ لها فَعرَفْتُها ... لِسِتَّةِ أَعْوامِ وذا العامُ سابِعُ

وكذلك قوله:

قالت ألا لَيتما هذا الحمامُ لنا ... إلى حمامَتا ونِصْفُهُ فَقَدِ

فحسبوه فألْفَوْه كما حَسِبتْ تسعاً وتسعين لم تنقُص ولم تَزِدِ

فكمّلَتْ مائةً فيها حمامتُها ... وأسرعتْ حِسْبةً في ذلك العدد

فقوله: (سابع) و (فكمّلَتْ مائةً) قد يراه الجاهل بطرائق العرب لغواً يعيب الكلام، لكن هيهات لأعاجم العرب الذين لا يملكون من الذوق اللغوي ما يملكه النابغة أو الفرزدق القائل:

ثَلاثٌ واثْنتانِ فهُنّ خَمْسٌ ... وثالِثةٌ تَميل إِلى السِّهَام

ومثله من الفذلكة كذلك قول الأعشى:

وسِتّ حين يدركني العشاء ... ثلاثة بالغداة فهي حسبي

وشرب المرءِ فوق الريِّ داء فذلك تسعة في اليوم ريّيّ

فهذه الشواهد التي قالها أدباء العربية وأساطينها تبين فناً من فنون البيان جهله الطاعنون في القرآن الذي نزل وفق نسق كلام العرب موافقاً لوجوه بلاغتهم.

وقد ذكر العلماء وجوهاً من المعاني تبين فائدة الفذلكة، منها دفع التوهم بأن الواو التي بين الأرقام بمعنى (أو)، وهو معنى صحيح لها على مذهب علماء العربية الكوفيين، فعن قوله تعالى: {فصيام ثلاثة أيامٍ في الحج وسبعةٍ إذا رجعتم} قال الزجاج: «جَمَعَ العددين لجواز أن يُظَنّ أنَّ عليه ثلاثة أو سبعة، لأن الواو قد تقوم مقام (أو)، ومنه: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} (فاطر: ١) , فأزال احتمال التخيير» (٣).

وقال الزمخشري: «فائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة، كما علم تفصيلاً ليحاط به من جهتين، فيتأكد العلم، وفي أمثال العرب: علمان خير من علم».

وقال غيره من العلماء: ذكر الله العشرة لئلا يتوهّم أنَّ العدد سبعة يراد به الكثرة، لا العدد نفسه، كما هو معهود عند العرب، فقد روى أبو عمرو بن العلاء وابن الأعرابي عن العرب: "سَبَّع الله لك الأجرَ"أي أكثر ذلك، يريدون التضعيف.

وقال الأزهري في قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} (التوبة: ٨٠) هو جمع السبع الذي يستعمل للكثرة (٤)، وهو مشهور في لغة العرب.

ولهذا لما احتمل أن يُتوهّم أنَّ المراد بالسبع ما هو أكثر من السبع, ذكرت الآية الفذلكة، فرفع هذا الاحتمال.

وهكذا ففي كل هذه الوجوه ما يؤكد على حكمة الله البالغة بذكر جمع الأعداد؛ وإن جهل ذلك الطاعنون في القرآن والشانئون له بغير علم ولا بينة.


(١) تاج العروس من جواهر القاموس (٢٧/ ٢٩٤).
(٢) لسان العرب (٤/ ٥٨٦).
(٣) البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي (٢/ ٢٦٨).
(٤) انظر المصدر السابق (٢/ ٢٦٨).

<<  <   >  >>