للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

سادساً: هل في القرآن زيادة أو سقط أو جمل لم تكتمل؟

١. قالوا: في القرآن جمل لا يتضح معناها إلا بحذف واو منها، وقصدوا بذلك قوله تعالى: {فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} (يوسف: ١٥) فتساءلوا أين خبر {فلما ذهبوا به وأجمعوا}، ورأوا أن المعنى لا يتم إلا بحذف الواو في قوله: {وأوحينا} لنصل إلى الخبر، وهو بحسب زعمهم {أوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا}.

ومثله زعموه في قوله تعالى: {فلما أسلما وتله للجبين وناديناه يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين} (الصافات: ١٠٣ - ١٠٥)، فزعموا أن قوله: {فلما أسلما} لا يظهر خبره إلا بحذف الواو من قوله {وتله للجبين}.

الجواب:

للعلماء في جواب هذه المسألة أجوبة، وكلها وجوه صحيحة تعرفها العرب في كلامها، وأهمها ثلاثة وجوه:

الأول: وهو مذهب علماء اللغة البصريين، ويرون أن الخبر في هذه الشواهد محذوف مضمر، وتقديره يكون بحسب السياق، وهو موضع نستوفيه ونذكر شواهده في حديث يأتي قريباً عن الجمل التي زعموا عدم اكتمالها.

الثاني: وهو مذهب علماء اللغة الكوفيين، ويرون أن الخبر في هذه الشواهد وأمثالها ظاهر بعد واو الصلة، التي تقحمها العرب في جواب (لما) و (حتى)، فما يأتي بعدهما يقع جواباً لما قبلهما (١).

وقد نقل ابن الأنباري الرأيين بقوله: " ذهب الكوفيون إلى الواو العاطفة يجوز أن تقع زائدة، وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش وأبو العباس المبرد وأبو القاسم ابن برهان من البصريين. وذهب [جمهور] البصريون إلى أنه لا يجوز" (٢).

وتقدير السياق في الآيات السابقة على مذهب الكوفيين: (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب أوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم) (فلما أسلما وتله للجبين ناديناه يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا).

ويسمي بعض النحاة واو الصلة بالواو (الزائدة)، لأنها لا محل لها من الإعراب، والعرب تزيدها في كلامها لمآرب بيانية، وكذلك صنع القرآن الذي نزل موافقاً لطرائقهم في الكلام والبيان.

ومن شواهد إضافة العرب لهذه الواو قول الأسود بن يعفر النهشلي:

حتى إذا قملت بطونكم ... ورأيتم أبناءكم شبوا

وقلبتم ظهر المجن لنا ... إن اللئيم العاجز الخب

والمعنى: قلبتم ظهر المجن بعد أن كبر أبناؤكم وشبعتم.

ولن يقبل تخبط جاهل - لم يعرف طرائق العرب في الكلام - بوجوب حذف الواو في قوله: (وقلبتم)، فما هو أدرى بلغة العرب من شاعر تميم في الجاهلية ونديم النعمان بن المنذر ملك المناذرة.

ومن صور الواو (الزائدة) قول امرؤ القيس:

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل

والمعنى: لما أجزنا ساحة الحي انتحى بنا .... والواو زائدة.

ومن بعدهما قال الأخطل التغلبي النصراني:

ولما رأى الرحمن أن ليس منهم ... رشيد ولا ناه أخاه عن الغدر

وصب عليهم تغلب ابنة وائل ... فكانوا عليهم مثل راغية البكر

والمعنى: صب الله عليهم العذاب بتغلب بعد أن فسدوا وغدروا.

الثالث: وهو مكمل للثاني، فقد ذهب آخرون من فقهاء اللغة إلى جواز زيادة الواو في جواب (لما) و (حتى)، وفي جواب غيرهما، ومثّلوا له بقول الشاعر:

فإن رشيداً وابن مروان لم يكن ... ليفعل حتى يصدر الأمر مصدرا

فإنه أراد رشيد بن مروان، فزاد الواو بين الصفة والموصوف، وليس في السياق (لما) ولا (حتى).

ومثله قول شاعر آخر:

كنا ولا تعصي الحليلة بعلها ... فاليوم تضربه إذا ما هو عصى

فزاد الواو في خبر كان، والمعنى: كنا لا تعصي الحليلة زوجها (٣).

٢. قالوا: ثمة جمل في القرآن لم تكتمل (٤)، ومنها قوله تعالى: {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعاً} (الرعد: ٣١)، وقوله: {حتى إذا ما جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها}.

والجواب: قبل الشروع في تبيان جواب قولهم تفصيلاً؛ نستذكر قولاً لإمام اللغة الجرجاني، وهو يتحدث عن طرف من إعجاز القرآن، فيقول: «الحذف هو بابٌ دقيقُ المسلك، لطيفُ المأخذ، عجيبُ الأمر، شبيه بالسِّحر، فإِنَّك ترى به ترك الذِكْر أفصحَ من الذكر، والصمت عن الإِفادة أزيدَ للإِفادة، وتجدُك أنطقَ ما تكونُ إِذا لم تنطِقْ وأتمَّ ما تكون بياناً إذا لم تُبِن» (٥).

ثم ذكر له عشرات الشواهد من القرآن الكريم ومن أشعار العرب وآدابها، ليدلل على فن تعرفه العرب في كلامها، ولا ينكره إلا الجاهلون من الأعاجم المستعربين اليوم.

وشواهد الحذف في القرآن الكريم كثيرة، وبين يدينا العديد منها مما جرى فيها حذف بعض الكلام من السياق، ولم يشكل على قارئيه، لأن المحذوف مما يدركه السامع من السياق، من غير حاجة لذكره، ومنه قول الله تعالى: {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق} (الأنبياء: ٩٦ - ٩٧) فقوله: {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون} مبتدأ، وخبره محذوف، والتقدير: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب قالوا: يا ويلنا فقد اقترب الوعد الحق أي يوم القيامة. وذلك أن خروج يأجوج ومأجوج علامة على اقترابه.

وكذلك حذف الخبر في قوله: {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلامٌ عليكم طبتم فادخلوها خالدين} (الزمر: ٧٢ - ٧٣)، والتقدير: سيق المتقون إلى الجنة زمراً حتى إذا جاءوها استقبلتهم الملائكة، وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ..

والواو في قوله: {واقترب} {وفتحت أبوابها} هي واو العطف، معطوفة على محذوف دل عليه السياق.


(١) انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل الدمشقي (٢٠/ ٢٢٦).
(٢) الإنصاف في مسائل الخلاف (٢/ ٦٥٤)، شرح الرضي على الكافية، الأستراباذي (٤/ ٣٩٣)، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (١٥/ ١٠٤)، خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، عبد القادر بن عمر البغدادي (١١/ ٥٧).
(٣) خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، عبد القادر بن عمر البغدادي (١١/ ٤٣ - ٤٥).
(٤) ذكرنا قبلُ مذهب أساطين اللغة الكوفيين في مثل هذه الشواهد، وأنهم يرون أن الخبر في هذه المواضع وأشباهها ظاهر بعد واو الصلة، ونقلنا بعض شواهده في لغة العرب والقرآن الكريم.
(٥) دلائل الإعجاز، ص (١٢١).

<<  <   >  >>