وأما الكيد في مثل قوله:{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً}(الطارق: ١٥)، فهو كما عرفه الجرجاني بأنه إرادة مضرة الغير خفية، وعرفه غيره بأنه التدبير ضد العدو (١).
وهذه المعاني لا عيب فيها، إلا إذا كانت سبيلاً للتوصل إلى غاية مرذولة، أما مقاومة كيد الكائدين (إرادتهم الضر بالخفاء) بكيد مثله، أي (بإضرار خفي بهم)، فهذا غير مستنكر، إذ لا يلزم أن يكون الإضرار بالعدو على وجه ظاهر حتى يستساغ من الناحية الأخلاقية.
ولذلك يقول الله على لسان إبراهيم:{وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم}(الأنبياء: ٥٧)، ويعني أنه سيتخلص منها بوجه خفي، وهذا كيد ممدوح يتخلص به النبي إبراهيم عليه السلام من الأصنام التي تعبد من دون الله؛ من غير أن يدري به سفهاء المشركين، فيتعرضوا له بالقتل والإيذاء، وقد فعل هذا الكيد، فحطم أصنامهم من غير أن يعرفوا ذلك {قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ}(الأنبياء: ٥٩).
ومثله قول الله:{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ}(يوسف: ٧٦)، أي صنع الله صنيعاً خفياً جلب فيه الخير ليعقوب وبنيه بإحضارهم من المجاعة إلى أرض مصر.
وهكذا فالكيد الحسن والخداع الحسن لا يستبشعه أحد، ومن مثل هذا المخادعة والمكر بمن أراد الاعتداء على العرض والمال والنفس، فمخادعة المعتدي والمكر به طلباً للإنجاء منه وللإيقاع به على وجه خفي من محاسن الأمور وفاضل الأفعال.
وفي خاتمة هذا المبحث أرى أن أذكِّر القارئ الكريم أن هذه الفرية يثيرها قوم ينسب كتابهم لله مثل هذه المعاني، ولكن أعياهم أن يجدوا في القرآن ملمزاً صحيحاً، وتقطعت بهم السبل، فرموا القرآن بما نراه في كتبهم، فاعجب لذلك، وليطل عجبك وأنت تقرأ المنسوب إلى النبي داود حيث قال:«إلى متى يا رب تنساني كل النسيان»(المزمور١٣/ ١)، ونسب سفر إرمياء إليه أنه خاطب الله بقوله:"آه يا سيد الرب، حقاً إنك خداعاً خادعت هذا الشعب وأورشليم قائلاً: يكون لكم سلام. وقد بلغ السيف النفس"(إرميا ٤/ ١٠)، فالكتاب ينسب إلى الله - وحاشاه - نسياناً وخداعاً ينطوي على الكذب؛ إذ وعِد بالسلام، لكنه أعطى القتل والدمار!!