للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٣ - المضارع الدال على الماضي في معناه، ويجوز فيه الوجهان: الرفع والنصب، فأما الرفع فلكونه ماض في معناه، وأما النصب لكونه صيغة مستقبل، وقد جمعها الراجز (١) بقوله:

تلخيص مسألة حتى يا فتى ... رفعك حالاً بعدها إذا أتى

ونصب ما استقبل والوجهان ... في ما مضى معنى فخذ بياني

كشربت حتى تجيئُ الإبل ... وما تلا (فقاتلوا) (وزلزلوا)

وعليه فيجوز الوجهان (الرفع والنصب) في قوله تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} (البقرة: ٢١٤)، لأنه ماض في معناه (٢).

وهكذا تبين جهل القائلين بوجود اللحن في القرآن، وتسرعهم في الطعن عليه من غير حجة ولا بينة (٣).

المسألة السابعة: هل أدخل القرآن التنوين على الفعل؟

قالوا: القرآن أدخل التنوين على الفعل، والعرب لا تدخله إلا على الاسم، وذلك في قوله: {لنسفعاً بالناصية} (العلق: ١٥) وقوله: {ليكوناً من الصاغرين} (الأعراف: ١٣)، واستدلوا لقولهم بكتابتهما في المصحف - وفقاً للرسم العثماني - بالتنوين (لنسفعاً، ليكوناً).

الجواب: التنوين هو نون ساكنة من حيث نطقه (كتابٌ، كتاباً، كتابٍ)، فإنها تنطق في أحوالها الثلاثة (كتابنْ)، وما ألحق بالفعلين في الآيتين الكريمتين نون ساكنة؛ وهي نون التوكيد المخففة، وتنطق (لنسفعنْ، ليكوننْ).

وهنا يثور سؤال عن سبب كتابة الصحابة لهذين الموضعين (لنسفعاً، ليكوناً) بالتنوين (الذي ينطق نوناً ساكنة) بدلاً من النون الساكنة.

وفي الجواب نقول بأن العرب إذا أرادت الوقوف على بعض الحروف فإنها تغير الحرف الذي تقف عليه، ليقرأ على غير حالة التحريك، ومن أمثاله التاء المربوطة التي تنطق تاء عند الوصل (القيامة، الجنة)، وهاء عند الوقف (القيامه، الجنه).

ومثله نون التوكيد المخففة، فإن العرب إذا أرادوا الوقف عليها وقفوا بالألف؛ كما في تنوين النصب، ولأجل ذلك كتب الصحابة هذين الموضعين لنون التوكيد المخففة (تنويناً)، لأننا ننطقها (نوناً ساكنة) عند الوصل، و (ألفاً) عند الوقف، كما في تنوين الفتحتين سواء بسواء.

وقد أجمع قراء القرآن على الوقوف على هاتين الكلمتين بالألف (لنسفعا) (ليكونا)، قال ابن الأنباري عن النون المخففة: «تتغير في الوقف، ويُقَفُ عليها بالألف. قال تعالى: {لنسفعاً بالناصية} وقال تعالى: {ليسجنن وليكوناً من الصاغرين} أجمع القراء على أن الوقف فيهما بألف لا غير.

وقال الشاعر: يحسبه الجاهل ما لم يعلما» (٤).

وإذا أردنا التدليل على أصالة ما ننسبه إلى العرب من الوقوف على النون الساكنة بالألف - كالتنوين -؛ فإن شواهده في شعرهم كثيرة، ونبدأ بالبيت الذي ذكره ابن الأنباري من شعر ابن الأعرابي:

يَحسبه الجاهلُ ما لم يَعلما ... شيخاً على كُرسيَه مُعمَّما

فقوله: (يعلما)، أصلها نون ساكنة (يعلمنْ)، وكتبت بالألف كما تنطق حال الوقف.

ومن شواهد هذا الصنيع عند العرب قول ميمون بن قيس الأعشى في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم -:

فإياك والميتاتِ لا تأكلَنَّها ... ولا تأخذنْ سهما حديدا لتفصِدا

وذا النُّصُبِ المنصوبَ لا تَنْسُكَنَّه ... ولا تعبُدِ الأَوثانَ واللهَ فاعبُدَا

وصلِّ على حين العشيات والضحى ... ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا

ولا تقربنّ جارة إنَّ سرَّها ... عليك حرام فانكحن أو تابدا (٥)

وفيه أربعة شواهد (لتصفدا، فاعبدا، فاحمدا، تأبدا)، فهذه الكلمات الأربع تنتهي بنون ساكنة، وهي تكتب ألفاً كما تنطق عند الوقوف عليها؛ كما الحال في تنوين النصب، ولأجله كتبت في هذه المواضع بالألف، كما في الآيتين الكريمتين.

قال ابن منظور: «أَراد (فاعبدنْ)، فوقف بالأَلف كما تقول: رأَيت زيداً» (٦).

وقال الثعالبي: «إنه أراد (والله فاعبدنْ)، فقلب النون الخفيفة ألفاً، وكذلك في قوله عزّوجلّ: {ألقيا في جَهَنَّمَ}» (٧).

ومثله في شعر العرب قول الشاعر:

أقصِرْ فلستَ بمُقْصِرٍ جُزْتَ المدَى ... وبلغتَ حيثُ النَّجمُ تحتَكَ فارْبَعا

فقوله: (فاربعا) كتبت بالألف كحالها عند الوقف عليها، وهي في الأصل (فاربعنْ)، ولو وصلت بما بعدها لقرأت بالنون الساكنة (فاربعنْ).

وأيضاً مثله قول امرئ القيس:

قفا نبكِ من ذكرى حَبيبٍ ومنزلِ ... بسِقطِ اللّوى بينَ الدَّخولِ فحومَلِ

قال أبو الحسن المجاشعي: «أراد (قفنْ)؛ لأنه يخاطب واحداً بدلالة قوله في آخر القصيدة:

أحار ترى برقاً أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل».

وكذلك قال أبو عكرمة الضبي: «أراد (قفن)، فأبدل الألف من النون الخفيفة» (٨).


(١) عبد الودود الشنقيطي في تعليقه على كتاب "الجامع بين التسهيل والخلاصة" للمختار بن بونا.
(٢) انظر: دراسات لأسلوب القرآن، محمد عبد الخالق عضيمة (٢/ ١٤٣).
(٣) للاطلاع على المزيد من الردود على الشبهات المتعلقة بالنحو وغيره أدعو القارئ لمراجعة الموسوعة القيمة التي أعدتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في مصر بإشراف الدكتور محمود حمدي زقزوق.
(٤) الإنصاف في مسائل الخلاف (٢/ ٦٥٣)، حين أراد النحوي اللغوي ابن الأنباري الاستشهاد للقاعدة لم يجد لها شاهداً أفضل من القرآن الكريم، فبدأ به، وثنَّى بشاهد من أشعار العرب، فالقرآن ذروة ما قرأه العربي، وبه يحتج لصحة أسلوبه وسلامة لغته.
(٥) أي كن عزباً.
(٦) لسان العرب (١/ ٧٥٨)، وانظر الصحاح للجوهري (٦/ ٢٢١١)، وشرح شذور الذهب (١/ ٢٠٧).
(٧) فقه اللغة، الثعالبي، ص (٢١٤).
(٨) النكت في القرآن الكريم، ص (٤٥٨)، وتاج العروس (٤٠/ ٣٦٤).

<<  <   >  >>