للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الإنسان، بل هو المكان المنخفض من الأرض، ولما كانوا يقضون حوائجهم فيها؛ فقد استعملوه للدلالة على العذرة، لكراهية العرب للتصريح باسمها.

قال عمرو بن معدي كرب الزبيدي:

فكم من غائط من دون سلمى ... قليل الأنس ليس به كتيع

ومراده كثرة الوديان التي تفصله عن سلمى.

وفي مقابل هذا الأدب القرآني الجمِّ؛ فإننا نذكر المرددين لهذه الشبهة ببعض ما في كتبهم مما تستقبح ذكره الطباع: فقد ورد ذكر (الخرء) في سفر حزقيال حين زعموا أن الله قال لنبيه حزقيال: "وتأكل كعكاً من الشعير، على الخرء الذي يخرج من الإنسان تخبزه أمام عيونهم" (حزقيال ٤/ ١٢).

ووردت المضاجعة صريحة في كتبهم في مواضع لا تحصى لكثرتها، بل ورد ذكر تفاصيل فاضحة عن العلاقة الجنسية، ومنه قول التوراة: "وزنتا بمصر في صباهما زنتا. هناك دغدغت ثديّهما، وهناك تزغزغت ترائب عذرتهما" (حزقيال ٢٣/ ٣)، ومثله في قولها: "حبيبي لي، بين ثديي يبيت" (نشيد ١/ ١٥)، وأمثال هذا كثير، يطول المقام بتتبعه.

وهكذا فإن أدب العبارة القرآنية لا يبارى ولا يجارى، لأنه كتاب الله وكلامه، وما وقع فيه الآخرون من اتهام القرآن بذكر القبيح؛ إنما كان لعدم فهم هذه الألفاظ، فقد فاتهم أنها ألفاظ كناية تستخدمها العرب لتوري بها عن الصريح المستقبح، فلما غلب استعمالها على ما أطلقت عليه كناية؛ ظنها الجاهلون بلغة العرب من ألفاظ الفحش والقباحة ومما لا يليق.

٢. قالوا: القرآن يحرم إكراه العفيفات على البغاء، ويجيز إكراه غير العفيفات، وذلك في قوله: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفورٌ رحيمٌ} (النور: ٣٣).

والجواب: المتأمل للمعنى المقلوب الذي فهمه الشانئون من هذه الآية يدرك المأزق الذي يعانيه أعداء القرآن، إذ لا يستقيم عند عاقل تحريم إكراه العفيفة وجواز إكراه غيرها، فإن البغيَّ لا تكره على البغاء، فإنما يكره على الشيء من يكرهه. ومن لم تُرِد التحصن بغت طوعاً (١).

ولو شاء الطاعنون في القرآن نصفته لشهدوا أنه ما من دين أرسى من مبادئ العفة ما أرساه الإسلام، هل رأيت في دين من أديانها أنه يعاقب على الزنا بالقتل ويحرم حتى النظر إلى الأجنبية، ويأمرها بالستر بين الرجال، ويمنع اختلاط النساء بالرجال حتى في المساجد وفي حال العبادة والطهر والسمو الروحي الذي تغور - عادة - عنده دواعي الشهوة.

ولو أرادوا الحقيقة لما أعياهم الرجوع إلى سبب نزول الآية، واستجلاء الوقائع التي أنزل الله معالجتها في تلكم الآيات التي لووها لمزاً للقرآن وطعناً فيه، فقد نزلت في جاريتين (مُسيكة وأُميمة) كانتا لرأس النفاق والمنافقين عبد الله بن أُبي ابن سلول، وكان يكرههما على الزنى، ليتكسب من أجره، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية (٢).

والسؤال: ما الذي يفيده قول الله تعالى: {إن أردن تحصناً}؟

والجواب: أن هذا ما يسميه العلماء (صفة كاشفة)، أي: ولا تكرهوا على البغاء فتياتكم اللاتي أردن التحصن، كما يراد منه زيادة التأكيد على التحريم، فلئن كان البغاء محرماً في كل حال؛ فإنه أشد حرمة وقبحاً حين يكون إكراهاً وإجباراً للمستعفَّات على فعل الفاحشة التي يكرهونها.

ومثل هذا الوصف الكاشف استخدمه القرآن في مواضع كثيرة، فقد عدَّد الله المحرمات من النساء، وذكر منهن: {وربائبكم اللاتي في حجوركم} (النساء: ٢٣) وربيبة المرء [ابنة زوجته من غيره] تحرم على المرء ولم تسكن في بيته، فقوله: {في حجوركم} لا مفهوم له، وخرج مخرج الغالب.

ومثله قوله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} (النساء: ١٠١)، ومن المعلوم أن قصر المسافر الصلاة لا يتعلق بحال الخوف دون الأمن، لكنه كما قال ابن كثير: «فقد يكون هذا خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية. إذ كانت أسفارهم بعد الهجرة في مبدئها مخوفة. بل كانوا لا ينهضون إلا إلى غزو عام، أو سرية خاصة، وسائر الأحياء حرب للإسلام وأهله. والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له .. ومما يشهد بأن للمسافر أن يقصر سواء أكان آمناً أم خائفاً» (٣)، وهكذا فقوله: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} لا مفهوم له.

ومثله أيضاً قوله تعالى: {أضعافاً مضاعفة} فهو لا مفهوم له في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة} (آل عمران: ١٣٠)، فالربا كله حرام، سواء كان الربا أضعافاً مضاعفة أم دون ذلك، وهو قيد للتعليل، وليس للاحتراز.

٣. قالوا: آيات القرآن تصف غير المسلمين بأنهم نجس، وذلك في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} (التوبة: ٢٨)، ورأوا في هذا ظلماً وانتهاكاً لإنسانية غير المسلم.

والجواب: المؤمن والكافر لا يستويان في ميزان الله {أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون} (القلم: ٣٥ - ٣٦)، ولا ريب أن المؤمن حبيب الله بما يمتاز به من نقاء الظاهر والباطن.

ولما كان تعظيم بيوت الله من شعائر الله وتوقيره؛ فإن صونها عن النجس أول حقوقها «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن» (٤)، وتحقيقاً لهذا الصون نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نشدان الضالة في المسجد وأمثاله مما هو متعلق بالدنيا.

وقد أمر الله المسلم بالتجمل للمساجد والتزين قبل دخولها {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجدٍ} (الأعراف: ٣١)، ومنع المسلم والمسلمة- في حال الحيض أو الجنابة أو أكل الثوم والبصل - من دخول المساجد صيانة لها عن الأذى وتعظيماً لها عن الأحوال الدنيئة، والكافر أولى بهذا المنع؛ إذ لا يغتسل من جنابة، ولا يحترز من خمر أو غيره من دقيق النجاسة التي يتوقى منها المسلم بموجب دينه وشريعته؛ حرصاً على صحة صلاته وسلامة دينه.

وهذا كله لا يمنع من القول بنجاسة الكافر معنوياً أيضاً؛ بما يحمله في قلبه من تعظيم لغير الله وعبادة لمن لا يستحق العبادة، ومثل هذا المعنى كثير في كتب الطاعنين في القرآن، فقد وصف سفر إشعيا غير المؤمنين بأنهم نجس «وتكون هناك سكة وطريق يقال لها الطريق المقدسة. لا يعبر فيها نجس بل هي لهم» (إشعيا ٣٥/ ٨)، وكذلك «البسي ثياب جمالك يا أورشليم المدينة المقدسة، لأنه لا يعود يدخلك فيما بعد أغلف ولا نجس» (إشعيا ٥٢/ ١).

ومثل هذا المعنى ورد في العهد الجديد «إنكم تعلمون هذا أن كل زان أو نجس أو طماع الذي هو عابد للأوثان ليس له ميراث في ملكوت المسيح والله» (أفسس ٥/ ٥)، وكذلك «لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تطرحوا دُرركم قدام الخنازير» (متى ٧/ ٦).


(١) انظر اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل الدمشقي الحنبلي (١٤/ ٣٧٧).
(٢) أخرجه مسلم ح (٣٠٢٩).
(٣) تفسير ابن كثير (٣/ ٣٩٤).
(٤) رواه مسلم ح (٢٨٥).

<<  <   >  >>