للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من الصحابة، وإذا ما سمعوا من غيرهم أسرعوا إلى من عندهم من أصحاب رسول الله - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - ليتأكدوا مما سمعوا، فكانوا يبينون لهم الغث من السمين، من هذا ما فعل ابن عباس مع ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: كَتَبْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَسْأَلُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابًا، وَيُخْفِي عَنِّي (١)، فَقَالَ: «وَلَدٌ نَاصِحٌ أَنَا أَخْتَارُ لَهُ الأُمُورَ اخْتِيَارًا، وَأُخْفِي عَنْهُ»، قَالَ: فَدَعَا بِقَضَاءِ عَلِيٍّ، فَجَعَلَ يَكْتُبُ مِنْهُ أَشْيَاءَ، وَيَمُرُّ بِهِ الشَّيْءُ، فَيَقُولُ: «وَاللهِ مَا قَضَى بِهَذَا عَلِيٌّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ضَلَّ» (٢).

وكان كثير من طلاب العلم يرحلون إلى الصحابة، يقطعون الفيافي والقفار، للتأكد من حديث سمعوه من تابعي عندهم، وهذا معنى قول أَبِي الْعَالِيَةِ السَّابِقِ: «كُنَّا نَسْمَعُ الرِّوَايَةَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالبَصْرَةِ، فَلَمْ نَرْضَ حَتَّى رَكِبْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَسَمِعْنَاهَا مِنْ أَفْوَاهِهِمْ». بل إن الصحابة رحل بعضهم إلى بعض في سبيل هذا، فقد ارتحل أبو أيوب إلى عقبة بن عامر في مصر (٣) ورحل جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أُنَيْسٍ في حديث (٤)، وغير هؤلاء ممن سبق ذكرهم.

وأما التابعون وأتباعهم فقد كانوا على نطاق واسع من التنقل والارتحال في سبيل تحمل الحديث عن الثقات ومذاكرة الأحاديث، فهناك من ارتحل


(١) «يُخْفِي عَنِّي»: أي يكتم عني أشياء ولا يكتبها. انظر " صحيح مسلم بشرح النووي ": ص ٨٢ جـ ١، ولعله كان يخفي عنه ما لا يثق بصحته.
(٢) " صحيح مسلم بشرح النووي ": ص ٨٢ جـ ١.
(٣) انظر " جامع بيان العلم ": ص ٩٣ جـ ١.
(٤) انظر " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص ١٦٨: ب، و" جامع بيان العلم ": ص ٩٣ جـ ١. و " تهذيب التهذيب ": ص ١٤٩، ١٥٠ جـ ٥.