للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المَبْحَثُ الثَّانِي: احْتِيَاطُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي رِوَايَةِ الحَدِيثِ:

لقد عرف الصحابة منزلة السُنَّةِ فَتَمَسَّكُوا بِهَا، وَتَتَبَّعُوا آثار رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَبَوْا أنْ يخالفوها متى ثبتت عندهم، كما أَبَوْا أنْ ينحرفوا عن شيء، فارقهم عليه، واحتاطوا في رواية الحديث - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، خشية الوقوع في الخطأ، وَخَوْفًا مِنْ أَنْ يَتَسَرَّبَ إِلَى السُنَّةِ المُطَهَّرَةِ الكذب أو التحريف، وهي المصدر التشريعي الأول بعد القرآن الكريم، ولهذا تَتَبَّعُوا كل سبيل يحفظ على الحديث نوره، فآثروا الاعتدال في الرواية عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل إِنَّ بعضهم فَضَّلَ الإقلال منها، قال ابن قتيبة: «كان عمر شديد الإنكار على من أكثر الرواية، أو أتى بخبر في الحكم لا شاهد له عليه، وكان يأمرهم بأنْ يُقِلُّوا الرواية، يريد بذلك ألاَّ يتسع الناس فيها، ويدخلها الشوب، ويقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر والأعرابي، وكان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كأبي بكر والزُبير وأبي عُبيدة والعباس بن عبد المطلب - يُقِلُّونَ الرِّوَايَةَ عَنْهُ، بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئًا كسعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة» (١).

والتزم الصحابة - في الخلافة الراشدة - منهاج عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وأتقنوا أداء الحديث، وضبطوا حروفه ومعناه (٢)، وكانوا يخشون كثيرًا أنْ يقعوا في الخطأ، لذلك نرى بعضهم - مع كثرة تحمُّلهم عن الرسول - صَلَّى


(١) " تأويل مختلف الحديث ": ص ٤٨، ٤٩.
(٢) انظر المبحث الرابع من الفصل الأول في الباب الثاني فيما يلي، وقد بَيَّنْتُ فيه كيف رُوِيَ الحديث.