لقد خاف أن يُكَذِبَهُ الناس، وخاف أن يقضى على حياته ولا بد للمرء أن يتساءل: ما هو ذلك الوعاء المملوء عِلْمًا الذي لم يبثه أبو هريرة؟ وهل خصه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دون الأُمَّةِ بذلك. نفهم من حديث أبي هريرة أن الرسول حَمَّلَهُ نوعين من العلم، كل نوع لو كتبه إنسان لكان جرابًا كبيرًا، أحدهما بثه، والثاني لم يبثه، أما يكون رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد اختص أبا هريرة بشيء من الأحكام فغير معقول، لأنه ينافي تبليغ الرسالة، وهل ما اختصه به من الآداب؟ إن هذا بعيد جِدًّا لأن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما جاء ليتمم مكارم الأخلاق، ومنعه ذلك عن الأُمَّةِ يُنَافِي تبليغ الرسالة، فليس من المتصور أن يلقن الرسول الكريم بعض ما يتعلق بالأخلاق والآداب أبا هريرة، ويترك الأُمَّةَ من غير أن يفيدها بشيء من هذا!!. من هنا يتأكد أن الوعاء الثاني لم يكن فيه ما يتعلق بالأحكام ولا بالآداب والأخلاق، وَيُرَجَّحُ أن يكون بعض ما يتعلق بأشراط الساعة أو بعض ما يقع للأمة من فتن، ومن يَلُونَهَا من أمراء السوء، وَيُقَوِّي هذا عندي أن أبا هريرة كان يكني عن بعض ذلك، ولا يصرح به خَوْفًا على نفسه ممن يسيئه ما يقوله، كقوله: «أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ رَأْسِ السِّتِّينَ وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ»، وقوله: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ»، انظر " فتح الباري ": ص ٢٢٧ جـ ١، و" سير أعلام النبلاء ": ص ٤٣٠ جـ ١، وليس هذا الحديث ذريعة لمن يجعل للدين ظاهرًا وباطنًا حتى ينتهي به إلى التحلل من الدين، فأبو هريرة كان يحب أن يحدث الناس بما يعرفون حتى لا يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ إذا أخبرهم بما لا تتصوره عقولهم، وقد ذكر ابن تيمية بعض تنبؤات الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي أخبر عنها ووقعت فيما بعد في كتابه " الرد على المنطقيين ": ص ٤٤٥.