حقا لقد كان العرب يعيشون على هذه الفرقة ويقتاتون من هذه البغضاء
وتنمو هذه البغضاء حتى تستحيل إلى حروب طاحنة مدمرة تمتد إلى أن تعمر ما يعمر الفرد كما عاشت حرب البسوس أربعين سنة وكما عمرت حرب داحس، الغبراء مثل ذلك، فهذا التقاطع الذي تمتد جذوره في أعماق الزمن هذا الامتداد ويتأصل في النفوس والطباع حتى يغدو نظاما اجتماعيا وحتى يصبح الفرد من هذا المجتمع المتقاطع المتناثر يفتخر بالسلب والنهب والقتل وحتى تذم القبيلة بقلة حظها من هذه الصفات المنكرة فيقول أحد الشعراء في تجيلة خصمة:
قبيلته لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
هذا التقاطع المستحكم هو الذي انقطعت دونه أطماع المصلحين وانحسرت أمامه كفايات الأنبياء والمرسلين حتى قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} تلك هي معضلة القلوب التي استعصى حلها على غير من برأها، التي جعلته صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه:"يا محول القلوب ثبت قلبي على دينك".
وإذن فالذين يحاولون إصلاح القلوب من طريق غير طريق الدين نصيبهم
الفشل والإخفاق، إن هذا الظلام الذي يخيم على القلوب لا يبدده شيء كنور الإيمان وإن هؤلاء الأفراد المتنابذين المتدابرين لا يربط بينهم كرابطة الدين.
فلنلجأ إلى هذا الدين ولنطلب عنده شفاءنا ولنحل على ضوئه مشكلاتنا وليكن مقدمة ما نرده إلى ديننا إصلاح ذات بيننا وإزالة كل أسباب الخلاف من صفوفنا لنتقدم في سيرنا إلى غايتنا بقلوب مجتمعة متآلفة وصدور طاهرة متحالفة وصفوف متحدة متكاتفة ولا نكن كالمنافقين الذين قال الله في حقهم:{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} ولنستمع لدعوات القرآن المتكررة في ذلك من مثل قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ولكن فينا شياطين يصدون عن الدين، وإن فينا مفرقين يستغلون ما يحدث من خلاف بين المسلمين فيوغرون صدورهم ويوقدون نار الفتنة بينهم بما ينفثون من سموم السعاية وما يبثون من جراثيم الوشاية لا يخافون في الشر لومة لائم رضوا بأن يكونوا قناطر للشر ومعابر للفتنة كما رضوا لأنفسهم بهذه السفارة الرخيصة سفارة الجراثيم في نقل الأمراض