ويربأون بأفكارهم أن تقيد، وبضمائرهم أن تخدر، وبدينهم تعبث به الأهواء، ويتعرضون في امتناعهم من قبول الوظيف لألوان من البلاء: من سجن وضرب بالسياط، وإحراق للمنازل:
عرض أبو جعفر المنصور القضاء على أبي حنيفة الإمام، فلم يقبل، فضرب مائة سوط حتى تفصد دمه وسال على عقبيه، فقال للمنصور، عمه عبد الرحمن علي بن عباس: سللت على نفسك مائة ألف سيف، هذا فقيه أهل العراق، فقيه أهل المشرق، فأمر له أبوجعفر بثلاثين ألف درهم- كالتعويض عن إساءته إليه- فلم يقبلها، فقيل له: لو تصدقت بها، فقال: أيوجد عندهم الحلال؟ ذلك لأنه يذكر قوله في هذا الباب:(من جعل قاضيا فهو كالغريق إلى متى يسبح وإن كان سابحا؟).
واستقضى عبد الله بن وهب، فدخل داره وأغلق بابه فهدم عليه بعض داره، فبصر به أسد بن سعد- وهو يتوضأ في صحن الدار- فقال له: ألا تخرج إلى الناس فتقضي بكتاب الله، وسنة رسوله؟ فرفع رأسه وقال: إلى هنا انتهى عقلك؟ أما علمت أن العلماء يحشرون مع الأنبياء، وأن القضاة يحشرون مع السلاطين؟
وقال الإمام سحنون:(ما أشقى المفتي والحاكم ... ها أنا ذا يتعلم مني ما تضرب به الرقاب، وتوطأ به الفروج، وتؤخذ به الحقوق، أما كنت عن هذا غنيا؟).
وفرق كبير بين من يعرض عليه الوظيف، وبين من يعرض نفسه على الوظيف، ويتوسل إليه بعمل غير شريف، بل إن الإسلام لا يخول الوظيف من يطلبه، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي فقال أحدهما: "يا رسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل، وقال الآخر، مثل ذلك، فقال: إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا حرص عليه" وعن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال: يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها".
وهل موظفوا اليوم قائمون بحق هذه الأمانة مؤدون لما عليهم فيها؟ أم أن الأمر من مضحكات المتنبي إذ يقول في مصر عندما رآى ملكها عبدا (على عهد كافور الإخشيدي)