دنياهم فقراء، وإن كانوا أغنياء، وهم في أخراهم، أشد ضرا منهم في دنياهم، لأن حرصهم في دنياهم أعماهم، وأنساهم أخراهم، فحق عليهم بذلك قول علي رضي الله عنه -
في البخيل-: (يعيش البخيل في الدنيا عيش الفقراء، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء)، {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا}، إنه الجوع الذي ولد التذلل والخضوع، لأنه ولد الطمع والجشع، والنفاق والملق، والبخل والجبن، وولد الغش والخداع، والسرقة والخيانة، وولد الشر والفساد، والظلم والإستعباد، وولد الحرب والاستعمار، والخراب والدمار، وأهلك الحرث والنسل.
ذلك هو الحرص، داؤنا القديم، الذي لقحت به دماء أبينا الأول وجعله لا يقنع بكل ما في جنان الخلد من الطيبات، وأفانين المشتهيات ودفع به إلى معصية ربه، الذي خلق الجنة من أجله، وأغراه بالأكل من الشجرة التي نهاه عنها، فكان جزاؤه إخراجه من الجنة وحرمانه منها، إلى دار حلالها حساب، وحرامها عقاب، وبذلك كان الحرص أحد أصول المعصية الثلاثة، وبقى لقاحا خبيثا في دمائنا لا نتخلص منه قبل أن نقضي أيامنا المعدودة في هذا المنفى البغيض اذي أخرجنا إليه من جنة الخلد ودار الكرامة، عقابا
لنا على مخالفة الأمر الإلاهي التي أغرانا بها الحرص اللجوج، عقابا يبقى لنا درسا بليغا وذكرى خالدة أليمة، تذكرنا بعاقبة الحرص الوخيمة، حتى لا نقع في حبائله مرة أخرى فنحرم الجنة إلى الأبد، ولنعلم أن ما أخرجنا من الجنة- وهو الحرص- لا ندخلها قبل أن نتطهر منه، ونبتعد مدى حياتنا عنه، ولكن إبليس- عدونا الأكبر- الذي دبر هذه المؤامرة، وجرب هذا اللقاح، واستغل فينا هذه الغريزة اللجوج لحرماننا من دار النعيم المقيم، مازال لم يطفيء غلته ما أحرزه من نصر على خصمه، فيقف لأبنائه في طريق عودتهم إلى الجنة يصدهم عنها، ويستغل فيهم نفس الغريزة التي استغلها في أبيهم من قبل، وأوتي من الحرص في هذا الإغواء ما لا يماثله إلا حرص الأنبياء على الإهداء، وما أبدع قول الأستاذ الإبراهيمي في أحد دروسه النافعة، عند قوله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} الآية: (من طبيعة الشيطان الحرص، فهو إذا وجد منا يقظة لم ييأس، بل خنس بنتظر أن تحين منا غفلة، ليعيد الكرة)، ولسوء حظنا اجتمع- لإغوائنا- حرصان حرصنا المركوز في طبائعنا، وحرص إبليس على إغوائنا، فلا عجب أن يقول عليه الصلاة والسلام:"يشيب ابن آدم وتشيب معه خصلتان: الحرص، وطول الأمل"، وطول الأمل هو علة العلل، وهو الباعث على